الأحد، 14 أبريل 2013


في سبيل تأسيس علم الاستغراب

 

 

 

 

موقف الإخوان المسلمين

من الفلسفةالغربية

( الفلسفةاليونانية )

الأستاذ : حسن البنايرحمه الله

الأستاذ :سيد قطب يرحمه الله

الأستاذ : محمد قطب يحفظه الله

 

 

إعداد

أ.د/ حسن كامل إبراهيم

أستاذ – قسم الدراسات الإسلامية

كلية التربية – جامعة الملك سعود

كلية البنات – جامعة عين شمس

 

 

 

1434 هـ / 2013 م

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

الإهداء

 

 

 

 

إلي

رفيقة دربي

و

فلذات كبدي

نور

فجر

عبد الله

يوسف

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قال مالك رضي الله :

" كل يؤخذ من قوله و يردإلاالمعصوم  "

" صلي الله عليه و سلم "

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في سبيل تأسيس علم الاستغراب (1)

 

 

 

 

 

 

 

 

موقف الأستاذ حسن البنا من الفلسفة الغربية

(الفلسفة اليونانية )

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

الحمد لله رب العالمين ، الذي خلق الإنسان علمه البيان ، الذي رفع السموات بلا عمد ، ومهد الأرض و أجري الأنهار و البحار و فجر العيون لعيش البشر ، ووضع في الأرض الكنوز لرغد البشر . الحمد لله رب العالمين الذي نزل القرآن الكريم ختاما للكتب السماوية ، وجعله صالحا لكل زمان و مكان . والصلاة و السلام على النبي الأمي ، الذي لا نبي ولا رسول بعده ، الذي لا ينطق عن الهوى إن هوإلاوحي يوحي من رب العالمين ، الذي أرسله سبحانه و تعالي لخير كل البشر في الدارين الأولي و الآخرة . من يهديه الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له .

أما بعد ،،،

     فبداية قبل أن نتحدث عن المقصود بعلم الاستغراب يجب أن نشير إلي أن علم الاستشراق ، وهويعني دراسة الغرب للمسلمين وخاصة في المنطقة العربية ، بدأه أهل الغرب منذ اللحظة الأولي التي بدأ فيها نجم الحضارة العربية الإسلامية في الأفول ، حيث أخذ الغرب على عاتقه نقل العلوم و المعارف عن العرب و المسلين من وسائل متعددة  كالترجمة و الحروب و التجارة ،،،الخ . وظل الغرب يدرس ويحلل كل تلك المنجزات العربية والإسلامية مما كان له الأثر الكبير والفعال في تأسيس عصر النهضة الأوربية . ووجدنا من المستشرقين نفر زعم بعد ذلك أن كل ما فعله العرب والمسلمون في حضارتهم أنهم حافظوا علي التراث الغربي القديم ( الحضارة اليونانية ) دون أن يضيفوا له أي جديد ، وكأن العرب والمسلمين لم يكونوا سوي قنطرة عبرت من خلالها الحضارة الغربية القديمة إليالغرب في عصر النهضة . ولا يمكننا أن ننكر أنه يوجد في مقابل هذا الصنف من المستشرقين صنف آخر أبرز الدور العربي الإسلامي في إثراء الحضارة الإنسانية من خلا المنجزات و المكتشفات التي توصلوا إليها .

     وأخذ الغرب يرتقي في سلم الحضارة والتمدين في حين أصبحنا نحن نعيش في دياجير الظلام بعد أن كنا مركزا لإشعاع العلم و الحضارة . و لم يقف الغرب عند هذا المستوي بل أنه أخذ على عاتقه دراسة ذاته . بالإضافة إلي إرسالالكشوف الجغرافية - المعروفة للجميع – للتعرف على بقية أرجاء المعمورة ، و كانت هذه الكشوف و من بعدها الاستعمار يصاحبها جماعة من العلماء المتخصصين في مختلف فروع العلم المادية و الروحية ، وهؤلاء هم المستشرقون ، الذين قاموا بعملية استشراق واسعة النطاق أفادت الغرب في استعماره للعالمين العربي والإسلامي ، ولذلك صدق من قالإن : " الاستشراق والاستعمار وجهان لعملة واحدة " . و كان ومازال عمل المستشرقين يتميز بالغزارة ، والدقة ، والعمق ، والصبر . ثم أتت مرحلة أخرى حيث بدأت مدارس الاستشراق في الظهور إلي حيز الوجود كالمدرسة : الالمانية ، والإنجليزية ، والفرنسية ، والأمريكية . ونظمت مؤتمرات الاستشراق بطريقة دورية ومنظمة ، وعقدت الندوات وورش العمل في بلاد الغرب لمزيد من دراسة العرب و المسلمين ، وما تزال هذا الدراسات والبحوث و التقارير الاستشراقية ترفع لصانع القرار حتى يستفيد منها في تعامله مع العرب و المسلمين . " وليست المؤتمرات هي النشاط الوحيد ، فإنهم أسسوا مئات الأقسام العلمية للدراسات العربية والإسـلامية ، وأنشئوا مراكز البحوث والمعاهد وعقدوا وما زالوا مئات الندوات والمؤتمرات ، ونشروا ألوف أو عشرات الألوف من الكتب والدوريات ، ولم يكتفوا بجهودهم وحدهم في معرفتنا ، بل استقدموا أبناء الأمة الإسلامية للدراسة عندهم وبخاصة طلاب الدراسات العليا ، فأصبـحت رسائل المـاجستير والدكتوراه تنقل إليهم أدق التفاصيل في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأدبيـة والثقافية ، وكذلك بعض الندوات والمؤتمرات التي تعقد في بعض البلاد العربية الإسلامية بتمويل من بعض المؤسسات العلمية الغربية حيث يحضرها بعض المراقبين من الغربيين ." (1) 

     والسؤالالذي يطرح نفسه على بساط البحث : هل نحن نجحنا في دراسة كل ما أنتجه المستشرقون دراسة علمية متعمقة و موضوعية ؟ . أعتقد أننا قصرنا في هذا الجانب كثيرا ، كذلك لم نبذل الجهود اللازمة لدراسة الذات . أنه في حين نجح الغرب في دراسة ذاته وفي استيعاب كل مقدرات الرقي والتمدن العربية والإسلامية . تراجعنا نحن إليالخلف وأصبح بيننا و بين الغرب مسافات ومسافات . فلم نكتف بالفشل في معرفة ذاتنا بل  فشلنا كذلك في الأخذ بمقدرات الحضارة والتمدين من الغرب . (2)

لذا ينبغي أن نفكر جديا من الآن في دراسة الغرب ويكون ذلك " وفق أسس معينه بحيث نفيد من معطيات الحضارة الغربية المعاصرة فيما لا يتعارض مع أسس الحضارة الإسلامية وثوابتها . هذا العلم الذي يمكننا من دراسة الغرب هو ما يمكن أن نطلق عليه " الاستغراب" الذي يمكن تعريفه باختصار بأنه العلم الذي يهتم بدراسة الغرب (أوروبا وأمريكا) من جميع النواحي العقدية ، والتشريعية ، والتاريخية ، والجغرافية ، والاقتصادية ، والسياسية ، والثقافية ..الخ. وهذا المجال لم يصبح بعد علماً مستقلاً ، ولكن من المتوقع في ضوء النهضة العلمية التي تشهدها البلاد العربية والإسلامية أن تقوم مراكز البحث العلمي ووزارات التعليم العالي في العالم الإسلامي بشحذ الهمم وتسريع الخطى وتغذية السير لإنشاء أقسام علمية تدرس الغرب دراسة علمية ميدانية تخصصية في المجالات العقدية والفكرية والتاريخية والاقتصادية والسياسية . " (3) ولا تقف دراستنا للغرب عند دراسة أوربا وأمريكا  بل سندرس أيضا التغريبين من بني جلدتنا الذين يقلدون الغرب والذين يناشدون الجميع أيضا بتقليد الغرب في كل شيء بحجة أن هذا التقليد هو السبيل الوحيد للتحضر والتمدين ، وسنفتح معهم حوارا داخليا لتضيق الهوة التي بيننا و بينهم .

     والسؤالالثاني الذي يطرح نفسه علي بساط البحث أيضا : هل نحن مؤهلون لدراسة الغرب ؟ نعم ، فنحن نمتلك العقول القادرة علي القيام بهذه المهمة الشاقة والصعبة والمستحيلة . فكما استطاع الآباء و الأجداد القيام بهذه المهمة في العصور الوسطي فنحن قادرون عليها الآن . قادرون أن ندرسهم بهمة عالية ، وندية ، وبمنتهي القوة . ندرسهم ونحن على ثقة كبيرة في أنفسنا ، ونحن واثقون بإذن الله تعالي من نجاحنا في هذه المهمة .

     نعم ، نحن قادرون على بذل الغالي والنفيس لدراسة الغرب من أجل : " فك العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر ، والجدل بين مركب النقص عند الأنا ومركب العظمة عند الآخر . فمنذ  الاستشراق القديم الذي نشأ و اكتمل في عنفوان المد الاستعماري الأوربي لجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الشعوب المستعمرة أخذ الغرب دور الأنا فأصبح ذاتا و اعتبر اللاغرب هو الآخر فأصبح موضوعا . الاستشراق القديم يعني رؤية الأنا الأوربي للآخر اللا أوربي ، علاقة الذات الدارس بالموضوع المدروس . وكان نتيجة لذلك أن نشأ لدي الأنا الأوربي مركب عظمة من كونه ذاتا دارسا كما نشأ لدي الآخر اللا أوربي مركب نقص من كونه موضوعا مدروسا ... " (4)

     إنه في إطار الاستغراب ستتغير الأحوال جوهريا حيث سيصبح " الأنا الأوربي الدارس بالأمس هو الموضوع المدروس اليوم كما أصبح الآخر اللا أوربي المدروس بالأمس هو الذات الدارس اليوم . و بالتالي تحول جدل الأنا و الآخر من جدل الغرب واللا غرب إلي جدل اللا غرب و الغرب . " (5) وإذا أردنا أن ننجح في دراستنا للغرب من الضروري أن نخطط لهذا المشروع على نحو ما ينبغي أن يكون . فيجتمع مجاميع من الخبراء و يقوموا بوضع خطط قصيرة الأجل وطويلة الأمد لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي . (6) ويجب أن يسبق معرفة الآخر معرفة الذات لتثبيت الهوية أولا ، ثم نشرع بعد ذلك في  معرفة الآخر ،  فالحديث عن "الذات" و"الآخر" ثقافياً " لابد أن يقود إلى تحديد المعالم المميزة للنموذج الثقافي الإسـلامي عن النموذج الغربي... حيث يكون " الإسلام هو المكون لذاتيتنا الثقافية والمحدد لمعالم نموذجنا الثقافي وتميزنا عن "الآخـر" الغربي قائم فقط حيث يكون التميز والاقـتران الأمر الذي يجعل علاقة نموذجنا الثقافي -الذات الثقافية- بالآخر هي علاقة التميز والتفاعل ... " (7)

     و لا يعد الاستغراب حركة ثقافية معادية للغرب ، كما هو الحال في الاستشراق الذي يعد أغلب الباحثين حركة ثقافية غربية ترمي إلي تحقيق أهداف خبيثة .

وهذا ما أشار إليه أحد الباحثين العرب ، فقد بين الباحث أن المفكر الغربي يفهم الاستغراب علي أنه نزعة معادية للغرب بسبب حقد الأخر عليه سواء كان الآخر ياباني يريد اجتثاث الروح الغربية من فكره ، أو كان أصوليا إسلاميا يكفر الغرب و يكفر كل ما ينتج عنه . (8)

والخلاصة : إن الاستغراب الذي يعني بدراسة العالم الغربي لا يعني البتة تقليد الغرب في كل شيء أقصد أنه لا يعني التبعية للغرب تماما ، بل نعني بالاستغراب حركة ثقافية فكرية حضارية يقوم بها ثلة من العرب و المسلمين تهدف لدراسة الآخر بقصد الاستفادة مما وصل إليه من تمدن و تحضر ، و كذلك مد جسور الحوار معه القائمة على الاحترام المتبادل ، والتكافؤ ، والمصالح المشتركة  بحيث نصل من حوارنا إلي أرضية مشتركة يحقق فيها كلا الطرفين مصالحه الخاصة به . 

     ولقد قام أفراد من العرب و المسلمين بدراسة الغرب ، وهذه المحاولات الفردية لا ترقي بأية حال من الأحوال لدرجة أننا نقول أنه ظهر علم الاستغراب إلي حيز الوجود . وهذه المحاولات الفردية منها : العلمانية ، واليسارية ، والإسلامية ،،، الخ . و نحن في هذه الدراسة سنحاول الوقوف عند أحد هذه المحاولات ، وهي المحاولة الإسلامية ، و سنركز على وجه الخصوص على المحاولة الاستغرابيةالتي قام بها الإخوان المسلمون من خلال دراستهم للغرب ، وسنقتصر في هذه الدراسة علي تتبع  دراسة الإخوان المسلمين للتراث الغربي القديم أقصد بذلك الفلسفة اليونانية .

وسنبين كيف تناولوا هذا الموضوع بالتحليل والنقد ، وسنحاول تتبع كيف وضحوه ، وكيف رصدوا الآثار التي نجمت عن نقل الفلسفة اليونانيةإليالعرب و المسلمين في العصور الوسطي التي كان فيها العرب والمسلمين هم مشعل الحضارة و العلم في ذلك الوقت .

وسنحاول أيضا تبين كيف وقفوا علي آثار هذه الفلسفة اليونانية على الغرب إبان العصور الوسطي الأوربية المظلمة والعصور الحديثة و المعاصرة .

     و تأتي هذه الدراسة في ثلاثة بحوث مستقلة ، وسوف تقتصر علي تحليل و نقد موقف بعض أعلام جماعةالإخوان المسلمينالكبار من الفلسفة اليونانية . الأستاذ حسن أحمد عبد الرحمن محمد البنا الساعاتي ( 1906 – 1949 م ) مؤسس الجماعة ومرشدها العام الأول يرحمه الله ، والأستاذ سيد قطبإبراهيم حسين الشاذلي (1906 – 1966 م ) يرحمه الله ، والأستاذ محمد قطبإبراهيم حسين الشاذلي ( ولد 1919 م) يحفظه الله . سنحاول أن نتقصى محاولتهم الاستغرابية في تعاطيهم مع الفلسفة اليونانية ، تلك الفلسفة التي تعد الأساس الرئيس و العمود الفقري ليس للفلسفة الغربية في مختلف عصورها بل لأيديولوجياالغرب في الوقت الراهن . فكل ما تجده الآن من أفكار غربية على مسرح السياسة الدولية ممكن رده بسهولة ويسر إليالفلسفة اليونانية كالفوضى الخلاقة ، وصدام الحضارات ،،، الخ . إننا في هذه الدراسة سنبحث عن مساهمات بعض أعلامالإخوان المسلمين في تأسيس علم الاستغراب الذي مايزال يحتاج منا المزيد و المزيد من الجهد في سبيل تدشينه .

و تشتمل الدراسة على : من مظاهر علم الاستغراب : موقف حسن البناوسيد قطبومحمد قطب من الفلسفة الغربية ( الفلسفة اليونانية ) .

البحث الأول :موقف الأستاذ حسن البنا من الفلسفة الغربية ( الفلسفة اليونانية ).

توطئة : موقف الأستاذ حسن البنا من التغريب .

المبحثالأول : الثقافة الإسلامية و الفلسفة :

المبحث الثاني :الغيبيات بين الإسلام و الفلسفة .

المبحث الثالث :التصوف ، وعلم التفسير و الفلسفة .

تعقيب .

البحث الثاني : موقف الأستاذ سيد قطب من الفلسفة الغربية( الفلسفة اليونانية) .

يشتمل على :

توطئة : مصر شرقية أم غربية .

المبحث الأول: موقفه من مفهوم التوحيد عبر العصور .

المطلب الأول :الأديان .

المطلب الثاني:الفلسفة اليونانية .

المطلب الثالث : استلهام الفلسفة الحديثة والمعاصرة للفلسفة اليونانية .

المبحث الثاني : التصور الإسلامي والفلسفة :

المطلبالأول : طبيعة التصور الإسلامي .

المطلب الثاني : موقف المسلمين من جاهلية الفلسفة .

المطلب الثالث : التصور الإسلامي المعاصر والفلسفة .

تعقيب .

البحث الثالث :موقف الأستاذ محمد قطب من الفلسفة الغربية( الفلسفة اليونانية) .

المبحث الأول : المسلمون والفلسفة اليونانية :

المطلب الأول :نقل كتب الفلسفة و المنطق اليونانيينإليالمسلمين.

المطلب الثاني :آثار الفلسفة والمنطق اليونانيين على الفرق والفلاسفة و المتصوفة المنتسبين إليالإسلام .

المبحث الثاني: الغرب والفلسفة اليونانية :

المطلب الأول : سلبيات التراث اليوناني و إعجابه بالمأساة اليونانية.

المطلب الثاني : انتقالالفلسفة اليونانيةإليالغرب وآثارها على مفهوم الألوهية عندهم .

تعقيب .

 

موقف الأستاذ حسن البنا من الفلسفة الغربية

(الفلسفة اليونانية )

توطئة : موقف الأستاذ حسن البنا يرحمه الله من التغريب :

     لم يكن الأستاذ حسن البنا يرحمه الله في عصره من المشجعين على تقليد النموذج الغربي تماما علي نحو ما كان يدعو إلي ذلك نفر من المثقفين والمفكرين المصريين وفي مقدمتهم د. طه حسين ( 1306- 1393 هـ / 1889 – 1973 م ) يرحمه الله .

وهذا قد يؤشر علي أن الأستاذ البنا يرحمه الله قد يقف موقفا معارضا للفلسفة اليونانية بحجة أنها التراث الغربي القديم مقابل التراث الغربي الحديث الذي يرفض الأستاذ البنا يرحمه الله تقليده تقليدا أعمي . وهذا ما سنحاول أن نتقصاه في هذا البحث . وخاصة أن د. طه حسين نادي في مؤلفه " مستقبل الثقافة في مصر " بأننا إذا كنا نريد نهضة شاملة فعلينا أن نقلد الغرب في كل شيء و خاصة في مجالالتعليم بحيث تكون كل مناهجنا الدراسية وخاصة الجامعية تسير على منوالالمناهج الغربية .

    ثم أرادأتباع د.طه حسين يرحمه الله من طلاب كلية الآداب في الجامعة المصرية أن يكرموه أقاموا له حفلاً، أعلن فيه أنه نصير الإسلام، وقال: " إنني أتمنى أن يقيض الله للإسلام من يدافع عنه كما أدافع عنه، وأن ينشره ويحببه للناس كما أنشره أنا وكما أحبب مبادئهللناس." .

     وعندئذ أخذ الأستاذ  البنا يرحمه على عاتقه مواجهة دعوة د. طه حسين يرحمه الله - مثلما فعل غيره من المثقفين والمفكرين حينئذ -  و رد على ما ورد في الكتاب من دعوة صريحة لتغريب مصر – وهذا كان تيارا ثقافيا موجودا في مصر يمثله ثلة من المثقفين والمفكرين المصريين - بحجة أن مصر غريبة و ليست شرقية على نحو ما يزعم د. طه حسين في كتابه المذكور .

      ومما قاله الأستاذ البنا في هذا الإطار : " وهل من الدعوة إلىالإسلام أن تنادي في صراحة لا تعدلها صراحة: أنه لا سبيل لنا إلىالرقيإلاإذا قلدنا وسلكنا مسلك الأوروبيين، لنكون لهم شركاء في حضارتهم خيرها وشرها، حلوها ومرها، نافعها وضارها، ما يحب منها وما يكره، وما يمدح منها وما يعاب، ومن زعم لك غير ذلك فهو خادع أو مخدوع!! . ولعلك تقول كما تقول: إنما أريد الدعوة إلىالعلم وإلى القوة وإلى الخلق والى النظام، وهذا حسن جميل، ولكن أفترى أن الإسلام لم يسلك المسلمين السبيل إليه قبل أن تخرج أوروبا من ظلمات جهلها بمئات السنين؟ فلم تدعونا إلىالعلم والقوة والخلق والنظام باسم أوروبا الناشئة المتخبطة، ولا تدعونا إلى ذلك باسم الإسلام الثابت الدعائم الراسخ الأركان؟! . " (1، 2)

هذا الرد من الأستاذ البنا يرحمه الله يعني أنه لا يريد أن تكون مرجعية الهوية المصرية عامة النموذج الأوروبي بل المرجعية من وجهة نظره هي العقيدة الإسلامية . وبالنسبة للفلسفة اليونانية فهل سار الأستاذ البنا يرحمه الله في تعاطيه معها على نفس المنوال ،فهلالأستاذ  البنا يرحمه الله اتخذ موقفا من الفلسفة اليونانية في ضوء العقيدة الإسلامية أم بعيدا عنها ؟ . هذا ما سنحاول أن نجيب عليه في ثنايا هذا البحث .

     واعتقد أيضا أن الأستاذ البنا يرحمه الله عندما يقارن هنا بين الإسلام والحضارة الأوروبية فهو يقارن بينهما مقارنة خيالية غير واقعية لأنه لا يجوز المقارنة بينهما بالمطلق ، لأن الأول يقصد به القرآن الكريم و السنة الشريفة و هما من لدن الحكيم الخبير في مقابل الثاني وهو وضعي من تأسيس جماعة من البشر .قبل أن نتناول موقف الأستاذ البنا يرحمه الله من الفلسفة اليونانية يجب أن نشير إلي أن الأستاذ البنا يرحمه الله عندما أسس جماعة الإخوان المسلين أسسها على أنها صاحبة فكرة إصلاحية شاملة ، تقوم علي  أنها : دعوة سلفية ، وطريقة سنية ، وحقيقة صوفية ، وهيئة سياسية ، وجماعة رياضية ، ورابطة علمية ثقافية ، وشركة اقتصادية ، وفكرة اجتماعية .  وعندما ينبه إلي أنها  جماعة : سلفية ، وسنية ، وصوفية ، يقول : " سلفية : تدعواإلىالعودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله.وسنية : لأنها تحمل أعضائها  علي العمل بالسنة المطهرة في كل شيء ، وبخاصة في العقائد والعبادات ما وجدوا إلى ذلك سبيلا .وحقيقة صوفية : لأنهم يعلمون أن أساس الخير طهارة النفس ، ونقاء القلب ، والمواظبة علي العمل ، والإعراض عن الخلق ، والحب في الله ، والارتباط علي الخير . (3)

نستنتج من ذلك أن الأستاذ البنا يرحمه الله في مواجهاته عامة وفي موقفه من الفلسفة اليونانية خاصة سيسير على نهج السلف الصالح وعلي طريقة أهل السنة و الجماعة . ونستنبط أيضا أنه سيسلك نفس النهج والطريقة في تفاعله مع التصوف قولا وعملا .

    ويجب أن نشير إلي أن  الأستاذ البنا يرحمه الله لم يدع إلي تنظير مشروع فلسفي لأن المشروع الفلسفي دائما يكون بعيدا عن الواقع و الناس بل أنه كان يدعو إلي مشروع واقعي يلتف حوله الناس يهدف إلي إصلاح دنياهم وأخراهم إنه " يركز علي الإصلاح المجتمعي الشامل الذي هو أشبه بثورة بيضاء كبرى لتنظيم شؤون الناس في الدنيا والآخرة ... وهذا المشروع الإصلاحي للمجتمع يركن إلي شيء مهم جدا ربما تتغافل الفلسفات عنه ، ذلك أن الفلسفة تبقي –بمشروعها الإصلاحي- في حيز التنظير المجرد الذي لا يجد البيئة الملائمة لتطبيقه ، وإن وجدها فلا يجد الخضوع الذاتي للأفراد كقوة ، ولا يجد من المجتمع الحراك الذي يتخلل أي إصلاح ، هذا الشيء هو الاعتماد علي مصادر التشريع في إصلاح المجتمع ... وهكذا كان الإمام الشهيد رضي الله عنه ، مصلحا بالقول والعمل ، بالتنظير والتطبيق ، فنزل إليالناس وإلي ساحاتهم ، ولم يكن مُنَظّرا في برج عاجي بعيدا عن الجماهير ، ولم يكن صاحب علاجات فلسفية هلامية فضفاضة ، أو عصية علي التنفيذ والتطبيق بل كان صاحب رؤية واقعية ، لأنه عايش الناس بنفسه ولمس داء المجتمع وشخصه وهو في أرض الميدان ، لا في برجه العاجي كعادة كثير من الفلاسفة . "(4) إذا مشروع الأستاذ البنا يرحمه الله مغاير للمشروع الفلسفي تماما لأنه عملي تطبيقي يهدف لخير البشرية في الدنيا والآخرة مقابل المشروع الفلسفي الذي لا يمت بصلة للواقع .

ولذلك يمكننا القولأن الأستاذ البنايرحمه الله نحا الفلسفة جانبا من مشروعه الإصلاحي الواقعي التطبيقي بل أنه سيسر على نهج أستاذه  محمد رشيد رضا يرحمه الله (  1885 – 1935 م )  صاحب المنهج السلفي ،  وسيسير علي دربه بعد ذلك في نفس المدرسة الأستاذ سيد قطبيرحمه الله ، وهذا ما سيساعد على تنامي التيار السلفي الذي تبنوه جميعا . (5)

المبحث الأول : الثقافة الإسلامية و الفلسفة :

بدايةيوضح الأستاذ البنا يرحمه الله أن ما يطرحه الإسلام أسمى مما تطرحه غيره منالفلسفات التي طرحها الفلاسفة و المصلحون الاجتماعيون ، يقول عن كمالالإسلام : " وثانيها – و هو العامل الإيجابي  في الموضوع – اكتشاف المفكرين من رجالالإسلام ما في أصوله وقواعده من سمو ورقي و صلاحية واكتمال ، وأنها أكمل وأدق و أفضل وأشمل وأجمع من كل ما كشفت عنه الفلسفات الاجتماعية والعقول المصلحة إليالآن ، وقد كان المسلمون غفلوا عن ذلك حينا من الدهر فلما كشف الله عن بصائر مفكريهم ، وقارنوا ما عندهم من قواعد دينهم الاجتماعية بما يتحدث عنه كبار الاجتماعيين وأساطين وجهابذة المفكرين ، ووجدوا البون شاسعا و الفرق بعيدا عن كنوز هذا الميراث الضخم و بين ما يلهوا به هؤلاء ، لم يملكوا أنفسهم من أن ينصفوا عقولهم وتاريخهم و شعوبهم ، وأن ينادوا بنفاسة هذا الميراث ، وأن يهيبوا بهذه الأمم الغافلة إسلامية و غير إسلامية أن تستفيد من هذا الإرشاد الرباني الكريم وأن تنتهج نهج هذا الصراط السوي المستقيم . "

أعود فأؤكد مرة أخرى أن الأستاذ البنا يرحمه الله لا يعقد مقارنة بين الإسلام الوحي الرباني وبين تلك الفلسفات والنظريات الاجتماعية الوضعية التي وضعت من قبل بعض بني الإنسان ، ولكنه يريد أن ينبه العقول إلي ما يوجد في الإسلام من سمو ورقي اجتماعي يفوق ما وضعه البشر في هذا المجال.

والأستاذ البنا يرحمه الله بذلك ليس منبهرا بتلك الفلسفات والنظريات علي غرار غيره من المثقفين والمفكرين المصريين بل أنه يقلل من شأنها إذا من قارنها – مقارنة افتراضية -  بالإسلام . والأستاذ البنا يرحمه الله لا يقصد فلسفة بعينها كالفلسفة الماركسية بل بقصد الفلسفة برمتها . (6) وهذا ما تأكد عليه احدي بناته التي صرحت  بأن والدها لم يأت بمشروع فلسفي جديد بل أنه طرح مشروعا سلفيا من خلالالدعوة لدين الله تعالي علي نهج السلف الصالح . تقول: " ابنة الشهيد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين أن والدها ـ رحمه الله ـ لم يأت بفلسفة خاصة به كما في البلشيفية والشيوعية وغيرها من الفلسفات التي من صنع البشر، ولذلك انتهت هذه الأسماء؛ مؤكدة أن البنا حاول إحياء دعوة الله، وما كان يطبقه السلف الصالح ." (7)

المبحث الثاني : الغيبيات بين الإسلام و الفلسفة :

     ينبه الأستاذ البنا يرحمه الله إلي حقيقة غاية في الأهمية ، وهي أن الإسلام ليس ضد أن يفكر الإنسان بل هو ضد أن لا يكون للتفكير البشري سقف يقف عنده و خاصة عندما يفكر في موضوع من موضوعات الغيبيات  كالحديث – مثلا - عن وجود الله تعالي و صفاته ، و يعتبر الأستاذ البنا يرحمه الله أن في ذلك خير الإنسان . . يقول : "  ومن البديهي أن هذا الموقف – يقصد كيفية تناول إثبات وجود الله و الحديث عن صفاته – لا يؤخذ علي الإسلام  في شيء و لا يقال إنه حجر علي  العقول وإنقاص من حرية الفكر فإن العقل البشري وهو عماد العقيدة في الإسلام يقف إليالآن موقف العجز المطلق أمام  حقائق الأشياء جميعا وكل الذي وصل إليه إنما هو الخواص و بعض الصفات والآثار أما البسائط  المجردة فلم يصل إلي حقيقتها بعد ، وما كان الإسلام ليكلف الناس ما لا تستطيع أن تدركه العقول والأفهام ... رسم الطريق إلي معرفة صفات الخالق وإدراك كمالات الألوهية ومميزاتها وآثارها والوصول إلي ذلك عن طريق النظر في الكون نظرا صحيحا و تحرير العقول والأفكار من الموروثات والأهواء و الأغراض حتى تصل إليالحكم الصائب . والقرآن يحث دائما علي النظر في الكون والتأمل في المخلوقات و يرفع من قيمة العقل ويعلي من قدر الفكر ... " . (8)

 نستنتج من ذلك أن  الأستاذ البنا يرحمه الله يرفض موقف الفلسفة من العقل التي لا تجعل للعقل البشري سقفا يقف عنده حتى حين يفكر في مسالة من مسائل الغيبيات .

     ونلاحظ ذلك عندما يبدأ الأستاذ البنا يرحمه الله مؤلفه  " الله في العقيدة الإسلامية " بتوضيح هام ، أنه لن يسير على طريقة الفلاسفة المنتسبين إليالإسلام ولا طريقة المتكلمين بل سيسير على هدي القرآن الكريم والسنة الشريفة . يقول:" لن الجأ إليالمصطلحات الفنية التي تواضع عليها العلماء المختصون بعلم الكلام ولن أحاول الخوض في النظريات الفلسفية أو الأساليبالمنطقية التي درج عليها المتكلمون حين يعالجون مثل هذه الموضوعات ولكني سألجأإليالقرآن الكريم وإليالسنة المطهرة وإلي ما عرفنا من سيرة الصدر الأول من المؤمنين بهذا الدين وهم لاشك أصفي الناس فطرة وألينهم قلوبا وأدقهم إدراكا للمقاصد وأعرفهم بمواقع الألفاظ والجمل و التراكيب وأعذبهم تذوقا لدقائق المعاني و المشاعر وبهذا كانوا نماذج الكمال لأهل هذا الدين ."(9)

يتضح من ذلك أن الأستاذ البنا يرحمه الله لن يكتف بالرجوع إليالكتاب والسنة بل أنه في بحثه سيحول وجهه شطر الصحابة والتابعين و أتباع التابعين وسيولي ظهره للفلسفة و المنطق وعلم الكلام . وهذا يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الأستاذ البنا يرحمه الله يدرك تماما أن البحث في العلوم الإسلامية عامة والبحث في مسائل الاعتقاد خاصة وعلى وجه الخصوص مبحث الألوهية يجب الاعتماد عند دراستها على الكتاب و السنة وما أوثر عن صحابته صلي الله عليه و سلم .

     ولقد بين الأستاذ البنا يرحمه الله أن هذه الموضوعات الغيبية كالحديث عن : الجن ، والملائكة ، والبعث ،،، الخ . وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم ، وأنها بالإضافة إلي صفات الله تعالي تدخل في ما نطلق عليه "ما وراء الطبيعة" أي "الغيبيات" ، التي يعجز الإنسان عن معرفة كنهها بكل ما أتي من حواس أو عقل .

و يستطرد الأستاذ البنا موضحا أن الذين ينظرون في القرآن الكريم بصدد هذا الموضوع قسمين : إما منكر له أو مؤول يتعسف في تأويله حيث يذهب إلي أنها تمثيل أو خيال ، وعند الأستاذ البنا يرحمه الله كلا الفريقين على باطل . والحق عليهم أن يعترفوا بعجزهم أمام معرفة هذا العالم ، وهذا من شيم العالم الألمعي . وبالنسبة للذين يحيطون السمعيات بقصص خرافية و حكايات أسطورية لم ترد لا في كتاب أو سنة فقد حادوا عن الشريعة .

     ويشير الأستاذ البنا يرحمه الله إلي أنه يوجد من يحاول أن يقرب هذه المعاني إلي غيره من المتشككين الذين لم تشرق نفوسهم بعد بنور الإيمان . فيتصرف في الألفاظ و يتجوز في التصوير بما يخالف النصوص الشرعية فيضل و يضل . ويختم الأستاذ البنا يرحمه الله حديثه حول هذه المسالة بقوله : " وليست هذه الصورة جديدة – يعني كل ما سبق ذكره – في البحوث الدينية ، بل إنها لتتكرر منذ ترجمت الفلسفة ، وأدمجت في علوم الإسلام إلياليوم ، والموفق من شرح الله صدره للإيمان فهو علي نور من ربه . " . (10)

     وكأن لسان حالالأستاذ البنا برحمه الله يقول : إن الفلسفة عامة و الفلسفة اليونانية خاصة هي سبب كل ما نجده في العلوم الإسلامية من ضلالات وكفريات وأباطيل .

     و بعد أن يطالب الأستاذ البنا يرحمه الله المؤمنين بأن يظهروا في أقوالهم و أفعالهم آثار الإيمان الصحيح ، وأن يعتقدوا أن الله تعالي هو الأحق بأن نلجأ إليه و نتوكل عليه ، وأنه الأجدر دون سواه أن نراقبه و نخشاه ، وأن يعتقدوا أنه واحدا فلا يعبدوا ما عداه و لا يسالوا سواه مستشهدا بقول الحق تبارك و تعالي [ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلي ربهم يتوكلون ، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ] ( الأنفال : 2 –4 )  ـ   يقول لهم بعد ذلك : " وبهذا التلخيص و التصوير البديع الدقيق جمع الإسلام كل ما يتصل بالعقيدة في الله تبارك وتعالي ووضع حدا مانعا من التخبط والتحريف والتفلسف بالباطل والجدل التافه في أقدس العقائد وأمسها بحياة الناس في الأولي والآخرة (11)  " .               

     ويستطرد البنا في حديثه مؤكد أن هؤلاء المؤمنين كما أنهم يجب أن يضعوا حدا للمفاسد و الضلالات بما في ذلك الفلسفة فهم كذلك ليسوا في حاجة إلي :  التشدق في الكلام ، ونظريات الفلاسفة ومذاهبهم عند بحث موضوع الألوهية . يقول : " ليسوا في حاجة كذلك إليالتطويل في معالجة البحوث الفرعية المتصلة بهذه العقائد كبحث الصفات والأسماء  وهل هي توفيقية أو قياسية و متعلقات هذه الصفات المسمي عين الاسم أو غيره ، والعمل شرط في الإيمان أو غير شرط فيه ..الخ مما يتصل بالفلسفة والترف العقلي أكثر مما يتصل بالعقيدة والاطمئنان القلبي . " (12) . 

 

المبحث الثالث : التصوف وعلم التفسير  و  الفلسفة :

     كان  الأستاذ البنا يرحمه الله يمارس التصوف حيث كان عضوا في احدي فرق الصوفية ، وهي الفرقة الحصافيةالشاذلية – نسبة إليالشيخ حسنين الحصافي شيخ الطريقة الأول –الذي كانت كلماته تمس أعماق قلبه ، وتجعله يتردد على مقر الطريقة حينا بعد حين . يقول : " أخذت أواظب على الوظيفة الروحية صباحا و مساء ، وزادني بها إعجابا أن الوالد - يقصد والده – قد وضع عليها تعليقا لطيفا جاء فيه بأدلة صيغها جميعا تقريبا من الأحاديث الصحيحة وسمى هذه الرسالة تنوير الأفئدة الزكية بأدلة أذكار الرزوقية ولم تكن هذه الوظيفة – يقصد الروحية – أكثر من آيات من الكتاب الكريم ، وأحاديث من أدعية الصباح والمساء التي وردت في كتب السنة تقريبا ، ليس فيها شيء من الألفاظالأعجمية أو التراكيب الفلسفية أو العبارات التي هي إليالشطحات أقرب منها إليالدعوات ." (13)

يؤكد الأستاذ البنا يرحمه الله هنا أن الطريقة الحصافيةالتي كان يتردد عليها  كانتتعتمد القرآن الكريم والسنة الشريفة كمرجعية لها ، وأنها لم يكن فيها شيئا من الفلسفة ولا الشطحات الموجودة عند غيرها من الطرق الصوفية . و يستطرد الأستاذ البنا يرحمه الله في نفي الضلالات و المفاسد عن الطريقة الحصافية ، فيذكر – مثلا - أن الشيخ الحصافي عندما ذهب إليالقاهرة و زار مسجد الإمام الحسين هو و بعض مريديه " و قف على القبر يدعو الدعاء المأثور : السلام علي أهل الديار من المؤمنين ( فقال له بعض المريدين : يا سيدنا الشيخ سل سيدنا الحسين يرضى عنك ، فالتفت إليمنضبا وقال : " يرضى عنا و عنك و عنه : الله ) وبعد أن أتم الزيارة شرح لإخوانه أحكام الزيارة وأوضح لهم الفرق بين البدعية والشرعية منها . " (14) .

     وبذلك  ينفي الأستاذ البنا يرحمه الله عن فرقة الحصافية مرة أخري بدعة من البدع الذائعة عند الفرق الصوفية وهي  التوسل بأصحاب القبور ، فالتوسل بأصحاب القبور بدعة منهي عنها شرعا علي نحو ما روي عن الشيخ الحصافي ، الذي لم ينهاهم عن التوسل بأصحاب القبور فحسب بل علمهم درسا في أنواع البدع ، مؤكدا أن منها الشرعية وغير الشرعية المنهي عنها  .

     ويستمر الأستاذ البنا يرحمه الله في مدحه لهذه الطريقة الصوفية الحصافية مبينا أنه لم ينبهر - مثل غيره – بكرامات الشيخ الحسية بل انبهر بطريقته في الدعوة لدين الله تعاليالتي تقوم على أساس متين من الدين . يقول : " وله رحمه الله في ذلك أمور في غاية الكثرة والدقة معا وكذلك شأنه دائما . هذه الناحية هي التي أثارت في نفسي أعظم معاني الإعجاب والتقدير وكان الإخوان يكثرون من الحديث عن كرامات الشيخ الحسية فلم أكن أجد لها من الوقع في نفسي بقدر ما أجده لهذه الناحية العملية ، وكنت أعتقد أن أعظم كرامة أكرمه الله بها هي هذا التوفيق لنشر دعوة الإسلام علي هذه القواعد السليمة وهذه الناحية العملية علي محارم الله تبارك وتعالي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وكل ذلك و لم تتجاوز سني الثانية عشرة . " (15)

     ولذلك يري الأستاذ البنا يرحمه الله أن التصوف الصحيح من الإسلام ، يقول : " وفي الحق أن التصوف الصحيح هو لباب الإسلام ، وأن الصوفية الصادقين من خيار رجاله الذين عملوا علي نشره و إعزازه ، وتربية النفوس علي مبادئه بطرق لم يسبقهم إليها غيرهم من الفلاسفة والمربين . " (16)

نستفيد من ذلك أن الأستاذ البنا يرحمه الله يعلي من شأن التصوف الصحيح علي مذاهب الفلاسفة والمصلحين الاجتماعيين ، وهذا يؤشر على أن البنا يرحمه الله يعلي من شأن التصوف الصحيح على أطروحات المتصوفة الفلسفية .

     ورغم ذلك  فإن الأستاذ البنا يرحمه الله يعترف بأن التصوف لم يقف عند حد السلوك والتربية بل تجاوز ذلك عندما اختلط بالفلسفة والمنطق ، فخرج عن الهدف الذي لأجله أنشأ  يقول : " ولكن فكرة الدعوة الصوفية لم تقف عند حد السلوك و التربية ولو وقفت عند هذا الحد لكان خير لها و للناس ، ولكنها جاوزت ذلك بعد العصور الأولي إلي تحليل الأذواق والمواجد ، ومزج ذلك بعلوم الفلسفة والمنطق  ومواريث الأمم الماضية وأفكارها ، فخلطت بذلك الدين بما ليس منه ، وفتحت الثغرات الواسعة  لكل زنديق أو ملحد أو فاسد الرأي و العقيدة ليدخل من هذا الباب باسم التصوف والدعوة إليالزهد والتقشف ، والرغبة في الحصول علي هذه النتائج الروحية الباهرة ، وأصبح كل ما يكتب أو يقال في هذه الناحية يجب أن يكون محل نظر دقيق من الناظرين في دين الله والحريصين على صفاته ونقائه . " (17) .

إذا التصوف لم يعد ذلك النبع الصافي الذي يجب أن ينهل من معينه المسلمون بل ينبغي عليهم أن يبتعدوا عنه ، بسبب اختلاطه بالفلسفة و المنطق و أشباهها مما أدي إلي فساده .

      ولذلك يؤكد الأستاذ البنا يرحمه الله على أن التصوف أصبح قسمين على أساس مصادره ، فمنه ما هو نابع من الكتاب و السنة ، ومنه ما هو يعتمد الفلسفة مصدرا له ، يقول : " وفي رأيي أن التصوف قسمان : تصوف ديني إسلامي ، يستمد أصوله وأحكامه من كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه و سلم . وتصوف فلسفي عقلي ، يستمد أصوله وقواعده من نظريات الفلاسفة وأحكامهم علي العوالم والنفوس " . 

     وهنا يؤكد الأستاذ البنا يرحمه الله على أنه يرفض الفلسفة عامة ويرفض الخلط بينها وبين التصوف لأن خلط التصوف بالفلسفة أدي إليالعديد من الانحرافات العقدية والفكرية وفي مقدمتها الشرك . (18)

      وينبه الأستاذ البنا يرحمه الله إلي أن القسمين من التصوف الإسلامي والفلسفي تداخلا مع بعضهما البعض ، مما أدي إلي سيطرة المذاهب الفلسفية على التصوف عامة ، يقول : " وقد اختلط القسمان اختلاطا كبيرا عز معه إدراك الحق من الباطل ، واستخدمت فيه آراء الفلاسفة لتفسير كلام الله وكلام رسوله صلي الله عليه و سلم بقدر ما تأول به المتأولونالآيات والأحاديث بما يتفق وآراء الفلاسفة حتى صار للصوفية لسان خاص بهم ، واصطلاحات مقصورة عليهم . " (19) .

نستنتج من ذلك أن الأستاذ البنا يرحمه الله أن التصوف النابع من الكتاب والسنة والتصوف الفلسفي اختلطا تماما لدرجة أن المرء لا يستطيع التفرقة بينهما .

       وعندما يتحدث الأستاذ البنا يرحمه الله عن التصوف الإسلامي ، يوضح أنه انقسم بدوره إلي قسمين ، اختلط كل منهما بالآخر ، يقول : " ونلاحظ كذلك أن التصوف الإسلامي نفسه قسمان : قسم يتعلق بالتربية و التهذيب و تطهير النفوس ، و حملها علي محاسن الأخلاق ، و استكمالالفضائل و هو المعروف بعلم المعاملة . وقسم يتعلق بنتائج الرياضة ، و ثمرات العبادة من الأذواق و المواجد و الكشف و الفيض إلي غير ذلك . وقد اختلط القسمان كذلك اختلاطا يصعب معه تمييز أحدهما من الآخر ، ولهذا يتعلق بعض المريدين بالثمرة ، ويتشوقون إليها قبل أن يسلكوا سبيل الوصول ، بل ربما غفلوا عنه واستهتروا به . كما يلاحظ أن التصوف الإسلامي اختلط به كثير من نتائج الأهواء ، وثمرات الغايات والأغراض ، ومظاهر الحياة السياسية والاجتماعية في العصور التي مرت به . " (20) . 

هذا إقرار من الأستاذ البنا يرحمه الله بدخول ما هو ليس بإسلامي إليالتصوف الإسلامي ، مما يجعلنا نؤكد علي أن التصوف الإسلامي الذي أقره الأستاذ البنا يرحمه الله لم يعد إسلاميا على نحو ما يقرر هو بنفسه .

     و لذلك نجد الأستاذ البنا يرحمه الله يضع برنامجا لتحرير التصوف من أسر الفلسفة والمنطق وأشباهها . أنه يريد أن يعيد التصوف الإسلامي إلي مساره الصحيح ، الذي يكون فيه الصوفية ملتزمين بالكتاب و السنة ، ونجده  يضع خطة لتحقيق ذلك تشتمل على المحاور الآتية : "

1 – إيراد أحكام علم المعاملة ، وبيان أدلتها من كتاب الله و سنة رسوله .

2 –الاقتصاد في إيراد ثمرتها من الأذواق والمواجد علي ما يشوق إلي سلوك سبيله ، ولا يتعارض مع الكتاب والسنة .

3 – بيان التفسير الصحيح لألفاظالفن التي وضعها له شيوخه وأئمته .

4 –العناية بالقدوة الصالحة في سيرة الشيوخ رضوان الله عليهم و كلامهم .

5 –العناية بالناحية العملية من نواحي هذا العلم ، لأنها أساسه وأصله . " (21)

و بالنسبة لعلم التفسيرفإنه لم يسلم - عند الأستاذ البنا يرحمه الله -  من مضار الفلسفة فقد تعرض بدوره لإدخال نظريات الفلسفة في تفسير آيات القرآن الكريم ، يقول : " وجاءعصر الترجمةوالفلسفة والاتصال بعلوم الفرس واليونان ، ووقع الخلاف بين فلاسفة الإسلام وعلمائه في كثير من الشؤون العقدية والفروع الفقهية وما إلي ذلك ، فنحت كتب التفسير نحو هذا الأسلوب من حيث تضمنها لكثير من النظريات الفلسفية والاستدلال بالآيات علي الآراء والمذاهب العقدية المختلفة ، بل إن كثيرا من المفسرين كان يجتهد أن يستنبط من الآية ما يوافق مذهبه في الفروع ، وذلك أمر طبيعي ، وكثير من كتب التفسير إنما كان الدافع إليه مجرد الرد علي بعض الكتب السابقة ، ويري ذلك واضحا في تفسير الفخر الرازي المتوقي سنة 606 هـ  والمسمي "مفاتيح الغيب" ، وفي تفسير الزمخشري المتوفى سنة 528 هـ و هو المسمي بالكشاف و أضرابهما ، ويطلق بعض الباحثين علي هذا الأسلوب "التفسير بالمعقول" . " (22)

نستنتج من ذلك أن بعض المفسرين استفادوا من  مذاهب و نظريات فلاسفة اليونانيين و الفلاسفة المنتسبين إليالإسلام في تفسيرهم لآيات الذكر الحكيم مما أخرج النصوص عن معناها الحقيقي . (23)

تعقيب :

1 -  رفض الاتجاه التغريبيالذي نادي به بعض المفكرين و المثقفين المصريين ، وامتد رأيه هذا على الفلسفة اليونانيةالتي رأي أنها أضرت كثيرا بالفكر الإسلامي عامة .

2 – رغم أنه برأ التصوف النابع من القرآن والسنة من تهمة الانحرافات العقديةإلاأنه أقر بأن التصوف الإسلامي اختلط بالتصوف الفاسد , ووضع خريطة طريق لتنقية التصوف مما فيه من شركيات وبدع حتى يعود إلي مساره الصحيح . .

4 – يري أن كل العلوم الإسلامية عانت من مفاسد الفلسفة كالفقه ( الفروع) والتفسير ( التفسير بالمعقول أو حسبما يطلق عليه البعض التفسير بالرأي ) ونادي بضرورة تخليص العلوم الإسلامية من مضار الفلسفة .

5 – لا نجد أثرا لأي مصدر من مصادر الفلسفة عنده ، وكذلك لم يستشهد بأي نص فلسفي من كتب أحد الفلاسفة أو أحد الباحثين أو الدارسين في مجالالفلسفة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فيسبيلتأسيسعلمالاستغراب (2)

 

 

 

 

 

 

 

 

موقفالأستاذ سيد قطبمنالفلسفةالغربية

( الفلسفةاليونانية )

 

 


 


 


 

 

 

 


 

 

موقف الأستاذ سيد قطب من الفلسفة الغربية


(الفلسفة اليونانية )


 

     يعد الأستاذ سيد قطب يرحمه الله من الأعلامالكبار لجماعة الإخوان المسلمين ، ولقد خاض بدوره غمار الفلسفة بكل مراحلها . وسنحاول في هذا البحث معرفة موقفه يرحمه الله من الفلسفة اليونانية على وجه الخصوص ، وسنبدأ معه من موقفه يرحمه الله من الثقافة الغربية الحديثة من خلال نقده لكتاب الدكتور طه حسين يرحمه الله " مستقبل الثقافة في مصر " ، لنعرف عما إذا كان موقفه موافقلموقفه من الفلسفة اليونانية أم لا ؟ . وهل سار على نهج الأستاذ البنا يرحمه الله في موقفه الرافض للثقافة الغربية عامة والفلسفة اليونانية خاصة .

توطئة : مصر شرقية أم غربية :

     يرفض الأستاذ سيد قطب يرحمه الله أن تكون العقلية المصرية عقلية أوروبية غربية . ويبدو ذلك بوضوح وجلاء في مؤلفه : " نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر " الذي نقد فيه موقف د. طه حسين يرحمه الله التغريبي ، الذي صرح فيه د. طه حسين بأن لا مستقبل للعقلية المصرية إلا بتقليد العقلية الأوروبية الغربية ، وحجته في ذلك أن العقلية المصرية ليست عقلية شرقية بل هي عقلية أوروبية غربية . (1)

     يقول الأستاذ سيد قطب يرحمه الله في كتابه تحت عنوان : " مصر شرقية أم غربية  " : " للدكتور – يقصد د. طه حسين يرحمه الله - وجهة عامة في كتابه : أن تكون ثقافتنا في المستقبل ثقافة أوربية خالصة . وأن يكون اتجاهنا أوربيا خالصا . وأن نتأثر أوربيا كما تأثرت اليابان ، في غير تردد و لا تلكؤ ، و بلا انتقاء أو تمحيص أو اختيار . " (2)

      وهذا يؤكد علي الاتجاه التغريبيالذي تبناه د. طه حسين يرحمه الله - وغيره من التغريبيينالمصريين و العرب - بتأثير أفكار المستشرقين الذين تتلمذ علي أيديهم .

     ويستطرد في نقد رأي د.طه حسين يرحمه الله  بأن مصر غربية ، فيقول : " وهو – يقصد د. طه حسين يرحمه الله - لا يحب أن تكون هذه الوجهة ابتداء ، وأن تكون جديدة يبتدعها هذا الجيل ، لأنها في هذا الوضع تثير اعتراضات يتوقاها هو أشد التوقي ، بل يريد لها أن تكون امتدادا للقديم ، وابتاعا للماضي ، وهو لهذا يقرر في سبعين صفحة من صفحات الكتاب هذه النظرية : أن مصر أمة غربية وليست أمة شرقية ، وأنها كانت غربية منذ عهد الفراعنة حتى اليوم ، ولم تكن يوما ما شرقية ،  لم تطق أن تكون يوما ما شرقية . . " (3)

     ويقصد د.طه حسين يرحمه الله بالشرق هنا الهند ، والصين ، واليابان ، وتجنب ذكر فارس وجزيرة العرب . ويذكر أن الدكتور طه حسين يرحمه الله أكد أن الموضوع الأساس ، أننا يجب أن نجيب عن السؤالالآتي : مصر ثقافتها و عقليتها شرقية أم غربية ؟ .

      ويستمر الأستاذ سيد قطب يرحمه الله في عرض وجهة د. طه حسين يرحمه الله فيقول : " فلابد للإجابة عن سؤالالدكتور في هذا الموضع أن تكون مصر أمة غربية ؛ لأنها – بلا تردد وبدون شك – تفهم الانجليزي والفرنسي أكثر بما تفهم الصيني والياباني في هذا الزمان ! وهذا ما قصد إليه الدكتور من توجيه السؤال على هذا المنوال . " (4) .

ذلك يعني أن د.طهحسين يرحمه الله – من وجهة نظر –الأستاذ سيد قطب يريد أن يصل بنا إلي أن مصر غربية تماما . ومن هذا المنطلق يبرر الدكتور طه حسين يرحمه الله موقفه التغريبيالذي يريد منا أن نقلد الغرب في كل شيء كما هو واضح في كتابه " مستقبل الثقافة في مصر " وفي غيره من الكتب التي ألفها .

     ويتساءل الأستاذ سيد قطب يرحمه الله عن الأساس الذي يعتمد عليه د. طه حسين يرحمه الله في موقفه هذا . يقول : " وعلام يبني الدكتور نظريته في أن مصر أمة غربية ؟ . إنه يبنيها علي حقيقة معروفة تاريخيا ، وهي أن العقل اليوناني اختلط بالعقل المصري وأثر الواحد منهما في الآخر طوال عشرة قرون فلنسمعه – يقصد د. طه حسين يرحمه الله -  يقول : " التلاميذ يتعلمون في المدارس أن مصر عرفت اليونان منذ عهد بعيد جدا وأن المستعمرات اليونانية قد أقرها الفراعنة في مصر قبل الألفالأول قبل المسيح " ... والتلاميذ يتعلمون في المدارس أيضا أن أمة شرقية بعيدة عن مصر بعض الشيء ، قد أغارت عليها ، وأزالت سلطانها في آخر القرن السادس قبل المسيح وهي الأمة الفارسية ، فلم تذعن مصر لهذا السلطان الشرقي إلا كارهة ، وظلت تقاومه أشد المقاومة و أعنفها . مستعينة على ذلك بمتطوعة اليونان حينا ، وبمحالفة المدن اليونانية حينا آخر ، حتى كان عصر الإسكندر ، وبالتأمل في الجمل التي وضعنا تحتها خط ، نجد الدكتور لا يخامره شك في أن المصريين أباحوا المستعمرات اليونانية في مصر لتوافق العقلين المصري واليوناني وحده . وأنهم قاوموا الفرس للاختلاف العقلي وحده كذلك ، وأنهم لهذا استعانوا بمتطوعة اليونان و بمحالفة المدن اليونانية . " (5)

     وعلي هذا النحو يبين الأستاذ سيد قطب يرحمه الله التناقض الواضح والصريح في الأدلة التي يطرحها د. طه حسين يرحمه الله . وهذه وسيلة ضمنكثير من الوسائل التي يستخدمها الأستاذ سيد قطب يرحمه الله في دحض أدلة د. طه حسين يرحمه الله .

     ثم يفند الأستاذ سيد قطب يرحمه الله بعد ذلك كل الحجج التي يستند إليها د. طه حسين يرحمه الله في القول بأن العقلية المصرية عقلية غربية يقول : " ولا يريد الدكتور أن يفرض أن النزاع السياسي و الوفاق السياسي لا يعنيان دائما نزاع العقليات و وفاقها . لا في القديم ولا في الحديث ، وأنه إذا صح –إلي حد كبير – أنه كان هناك اتصال بين العقلية المصرية والعقلية اليونانية . وكان هناك افتراق بين العقلين المصري والفارسي . فليست الأمثلة التي ذكرها هي التي تثبت هذا أو ذلك . وأمامنا الآن فيما يثور من المشاكل السياسية ما ينفي مثل هذا المنطق ، فاليابان والصين في حرب طاحنة ، وهما فريق واحد في رأي الدكتور ، وإيطاليا تعادي فرنسا وهما أمتان لاتينيتان – فوق أنهما أوربيتان من فريق عقلي واحد في رأيه كذلك . " (6) .

     ويستمر الأستاذ سيد قطب يرحمه الله في نقد مزاعم د. طه حسين فيقول : " وما رأي الدكتور لو قلنا له : إن هذه المستعمرات اليونانية لم تكن مرضية من المصريين ، وإنما كان يسمح بها بعض الفراعنة المكروهين من الشعب ، للجنود اليونانيةالمرتزقة ، لتحميهم هم من غضب الشعب ؟ وإنما المصريين كانوا ينقمون علي هؤلاء الفراعنة تقريبهم للإغريق ويأنفون من الاختلاط بالمرتزقة ، ويصفونهم بأقبح الصفات ؟ . " (7)

وهكذا كان جمهور المصريين متذمرين من اليونانيينالغربيين ولا يقبلون بوجودهم في مصر ، وهذا هو الموقف المصري من كل ما هو أجنبي . وأما إذا كان الفراعنة يجلبونهم لحمايتهم فإن موقف الفراعنة لا يعبر عن عموم رأي الشعب المصري .

     ويستمر الأستاذ سيد قطب يرحمه الله في محاورة د. طه حسين ليثبت أن الأسس والمبادئ التي اعتمد عليها لتبرير موقفه أن مصرية أوروبية غربية واهية  . فينقل عن د. طه حسين يرحمه الله  قوله : " إن الإسلام لم يغير هذه العقلية – يقصد العقلية المصرية - ، لأنه اختلط بالفلسفة اليونانية ، فأصبح بهذا الاختلاط عنصرا موافقا للعناصر المكونة لهذه العقلية لا مضادا لها ؛ ولأن الإسلام شأنه شأن المسيحية : والمسيحية لم تغير العقلية الأوربية حينما عبرت إليها ، فما بالالإسلام يغاير المسيحية في هذه الخلة . مع أن القرآن جاء مصدقا للإنجيل ؟ . " (8)

نستفيد من ذلك أن د. طه حسين يرحمه الله يساوي بين الإسلام ذلك الدين المحفوظ من قبل رب العالمين من التحريف وبين النصرانية التي قام أتباعها بتحريفها . وهذه المسالة يروج لها المستشرقون في كتاباتهم و يؤكد عليها ذيولهم ممن يعيشون بين ظهرانينا .

     ثم ينتقل الأستاذ سيد قطب يرحمه الله لمناقشة أدلة د. طه حسين يرحمه الله بقوله : " فلنناقش هذين الدليلين : فأما أن الفلسفة اليونانية امتدت إليالإسلام فهذا ما لا شك فيه ؛ ولكن من قال : إن الأديان تطبع الشعوب بفلسفتها و قضاياها المنطقية ؟ إنما المؤثر الأول للأديان هو نظامها الروحي . وهو تبشيرها و إنذارها . وهو الصورة الغامضة التي تنطبع في نفوس أتباعها ؛ ثم هو بعد هذا قوانينها و نظمها الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية إن كان فيها " كما في التوراة و القرآن " مثل هذه النظم . وما أظن الدكتور يقول : إن شيئا من هذا كله في الإسلام يتفق مع الفلسفة اليونانية . فالخاصة وحدهم تأثروا بهذه الفلسفة . أما الشعب المصري فقد أثر فيه الإسلام بخواصه تلك ، وطبعه بطابعها . بل أثر فيه بروحه العربية الخالصة . والروح العربية من أقوي الأرواح في أمم العالم " كما يقرر ذلك الدكتور نفسه في احدي محاضراته الأخيرة من محطة لندن اللاسلكية ". ولم تعد الفلسفة اليونانية مدينة الإسكندرية إلا في أحيان قليلة . وظلت  "منف " محتفظة بفرعونيتها . حتى جاء الرومان فكرهتهم و أعرضت عنهم ما وسعها الإعراض ثم جاء الإسلام فاعتنقته راضية ، و تأثرت به مع سائر البلاد . "  (9)

     وهكذا يؤكد الأستاذ سيد قطب يرحمه الله على مدي عمق تأثير الدين الإسلامي في نفوس المصريين البسطاء ، هذه النفوس النقية الصافية التي تلقفت دين ربها سبحانه و تعالي  فآمنت به عن رضا و قناعة . وأما النخبة المثقفة و المفكرة من المصريين فقد تلوثت عقولهم و قلوبهم بأفكار أساتذتهم من المستشرقين فلم يعد الدين الإسلامي هو المصدر الوحيد لتفكيرهم بل أضافوا إليه فكر المستشرقين مما كان له آثار ضارة عديدة عليهم أبرزها تقديم خرافات وأساطير المستشرقين عن الإسلام للمصريين على أنها حقائق صحيحة ، ولكن الله سبحانه وتعالي غالب على أمره .

     و يستمر الأستاذ سيد قطب يرحمه الله في محاولته فيبين أنه يوجد فروق جوهرية بين الإسلام والنصرانية . يقول : " علي أن هناك فارقا أساسيا بين الإنجيل و القرآن ؛ بل بين الإنجيل في ناحية ، والتوراة و القرآن في ناحية ، فهذان يحويان بعد اللاهوت نظما وشرائع و حدودا دينية واجتماعية واقتصادية وسياسية ، بينما الإنجيل يكاد يخلو من هذا كله . ....فالمسيحية حينما امتدت إلي أوربا وصلت إليها نظاما روحيا وإرشادا خلقيا ، ولكنها لم تضع لها أسسا للتشريع والاقتصاد والسياسة كما وضع القرآن ... حينئذ بقي العقل الأوربي يسيطر علي الحياة الدنيوية ويشرع لها و يتصرف فيها ، فلم يتغير منه شيء هام مع المسيحية ، أما القرآن فقد وضع العقل المصري والعقول التي خضعت له في نطاق معين ، هو نطاق التشريع القرآني و النظام الدنيوي القرآني . . " (10)

     ويرجع ذلك إلي أن الإسلام منهج حياة للإنسان المسلم ، فالمسلم يجد في الإسلام كل ما يحتاج إليه من أنظمة اجتماعية ، وثقافية ، واقتصادية ، وسياسية ،،،الخ .

     وبالنسبة لما ورد في هذا الشاهد من أن العقول " تخضع " للقرآن الكريم ، أري أن العقل المسلم لم " يخضع " للقرآن الكريم بل إنه تفاعل معه عن اقتناع عقلي ورضي ومودة ومحبة للإسلام الذي أخرجه من ظلمات الجهالة إلي نور الإيمان .

     وعلي هذا النحو يرفض الأستاذ سيد قطب يرحمه الله أن تكون العقلية المصرية عقلية أوربية بعبارة أخري إنه يرفض أن تكون مصر في ثقافتها تابعة ومقلدة  للثقافة الغربية . ولكننا نتساءل هل سينسحب رأيه هذا على موقفه من الفلسفة اليونانية ؟ .

المبحث الأول : موقفه من مفهوم  التوحيد على مر العصور :

     يستعرض الأستاذ سيد قطب يرحمه الله مسالة التوحيد في كل الديانات الوضعية والميتافيزيقية ، وكذلك في الفلسفات على مر العصور حتى يتبين طبيعة هذا التوحيد ، وعما إذا كان هذا التوحيد ربانيا خالصا أم أنه اعترته شوائب الوثنية و الشرك و الجاهلية و التيه .

المطلب الأول : الأديان :

عندما يشير إلي ديانة أخناتون في مصر القديمة ينبهنا إلي أنها كانت تحمل شيئا  من التوحيد المشوب بالوثنية . يقول : " واشتملت ديانة أخناتون على لون من التوحيد. إذ وصف أخناتون إلهه "أتون" بأوصاف الوحدانية، والفاعلية، ومنها خلق هذا الكون وحفظه وتدبيره. وكان هذا أعلى تصور عرفته البشرية في غير الديانات السماوية- وإن كان ينبغيإلاتغفل أثر الديانات السماوية في عقيدة أخناتون هذه- ولكن مع ذلك شابتها شائبة من عقائد الوثنية. إذ جعل هذه الشمس المادية رمزاً لألهه، وجعل اسمها مرادفاً لاسمه. فاختلطت عقيدة التوحيد بهذا الأثر الوثني الغريب! . " (11 ، 12)

ذلك يعني أن توحيد أخناتون لم يكن توحيدا ربانيا إلهيا خالصا كالتوحيد الوارد في القرآن الكريم و السنة الشريفة . بل أنه يوجد نفر من الباحثين يري أن طرح أخناتون يخرج تماما من دائرة التوحيد و يدخل بالفعل في دائرة التثليث .

وبالنسبة لحضارة الهند القديمة يجد ديانة الهندوكية أو البراهمية  تؤكد على وجود إله واحد للكون على غرار ما قاله أخناتون في مصر القديمة ، ولكن الإله هنا حل في الوجود ، هذا الوجود الذي يمثل الخير في مقابل العالم المادي الذي يمثل الشر . يقول : " :   الهندوكية مثلاً اعترفت بواحد هو وحده "الموجود" وهو "براهما" وجعلت من صفاته: التفرد بالكمال، والتفرد بالخير، والتفرد بالدوام، والتفرد بالأزلية . وجعلت ما عدا هذا الواحد الموجود "عدما" لا وجود له .. فهذه الأكوان وما فيها عدم! . ولكنها من جانب آخر جعلت "الوجود" الذي هو الخير والكمال يحل في "العدم" الذي هو الشر والنقص .. فبراهما حال في كل جزء من أجزاء هذا العالم –الذي هو عدم- فكل جزء من أجزاء هذا العالم- بما في ذلك الإنسان- مؤلف إذن من وجود وعدم. من خير وشر. من كمال ونقص. من بقاء وفناء! . ومهمة الهندوكيالمؤمن إذن هي المحاولة المستمرة لتخليص الوجود والخير والكمال والبقاء الذي في كيانه، من العدم والشر والنقص والفناء، "ليصير" براهما .. ومن هنا حرصه على إفناء جسمه –الذي هو العدم- لينطلق "الوجود" الحال فيه، ويصبح طليقاً .. وهذه هي درجة "النرفانا" وهي تمثل الخلاص والعودة "براهما"! . ومع ذلك فقد شاب هذا التوحيد –على ما به من حلول- شائبة من "التثليث".. إذ اعتبر "براهما" صورة من صور ثلاث للإلهالواحد: الإله "براهما" في صورة الخالق. والإله "فشنو" في صورة الحافظ. والإله "سيفا" في صورة الهادم. ثم جعلوا "الكارما" هي "القدر" الغالب على الآلهة وعلى الأفلاك. وهو الذي يكرر على العالم دورات الخلق والفناء .. فلم تسلم عقيدة التوحيد حتى في صورتها تلك المليئة بالإحالات! . " (13 ، 14)

 نستفيد من ذلك أن الديانة الوضعية الهندوكية أو البرهمية اعترتها نظريات الفلسفة كالحلول ، وشابها التثليث ، والتطهير من علائق الجسد ، والشرك . وغيرها من الوثنيات والأساطير و الشركيات ، ويبدو أثرها واضحا بعد ذلك في الحضارات التالية عليها عندما ترجمت كتب الحضارة الهندية إلي لغات هذه الحضارات ومنها بطبيعة الحالالحضارة الإسلامية فيما ظهر فيها من تيارات فكرية منحرفة تحمل في جعبتها كثيرا من هذه الانحرافات الفكرية .

وأما بلاد الفرسالتي كانت تؤمن بالهين أحدهما للخير و الأخر للشر ، وهما مازالا يتصارعان . يقول : " والفرس كانوا يعتقدون بالثنوية، ويجعلون للخير إلها هو "هرمز". قدرته واختصاصه مقصوران على عالم النور والخير. ويجعلون للشر إلها هو "أهرمان" قدرته واختصاصه مقصوران على عالم الظلام والشر. وهما أخوان مولودان لإله قديم اسمه "زروان"! . "وزعموا أن مملكة النور ومملكة الظلام كانتا قبل الخليقة منفصلتين، وأن هرمز طفق في مملكته يخلق عناصر الخير والرحمة. وأهرمان غافل عنه في قراره السحيق. فلما نظر ذات يوم ليستطلع خبر أخيه، راعه اللمعان من جانب مملكة أخيه، فأشفق على نفسه من العاقبة. وعلم أن النور وشيك أن ينتشر ويستفيض، فلا يترك له ملاذاً يعتصم به ويضمن فيه البقاء. فثار، وثارت معه خلائق الظلام – وهي شياطين الشر والفساد- فأحبطت سعي هرمز! وملأت الكون بالخبائث والأرزاء.. الخ" . واحتدمت المعركة وما تزال). " (15، 16)

يبدو من ذلك أن ديانة " الثنوية " تؤكد أن للوجود الهين اثنين ، وهذا شرك ساد هذه الحضارة ولا علاقة له بالتوحيد الإسلامي تماما من قريب أو من بعيد .

وفي مقابل تلك الديانات الوضعية الشركية نجد أن الله سبحانه و تعالي أرسل إبراهيم عليه السلام بالتوحيد الرباني الخالص الموافق للفطرة الإنسانية جمعاء . يقول : " وكان التوحيد ديانة إبراهيم عليه السلام، ووصى به إسماعيل وإسحاق. وكان يعقوب ابن إسحاق يدين بالتوحيد، ووصى به بنيه كذلك في ساعة موته، كما يحكي ذلك القرآن الكريم: "ومن يرغب عن ملة إبراهيمإلامن سفه نفسه؟ ولقد اصطفيناه في الدنيا، وإنه في الآخرة لمن الصالحين. إذ قال له ربه: أسلم. قال: أسلمت لرب العالمين، ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوبُ: يا بني إن الله اصطفى لكم الدين، فلا تموتنإلاوأنتم مسلمون. أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت. إذ قال لبنيه: ما تعبدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك واله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق –إلها واحداً- ونحن له مسلمون [ البقرة : 130 – 133 ] ". (17) هذا هو التوحيد الصحيح الذي يتفق مع الفطرة الإنسانية السليمة الخالية من شوائب الشرك و الجهالة . وبذلك يمكننا القول أنه يوجد بون شاسع بين التوحيد الوارد في هذه الأديان الوضعية وذلك الدين السماوي الموحي به من قبل رب العالمين الخالق و الرازق لكل مخلوقاته .

وموسي عليه السلام جاء كذلك بالتوحيد الإلهي ، ولكن قومه بني إسرائيل حرفوا كتابه . يقول : " فلما جاء موسى رسولاً لبني إسرائيل جاء بالتوحيد – وما تزالاليهودية تعتبر ديانة توحيد–إلاأن بني إسرائيل من قبل موسى ومن بعده، شوهوا هذا التوحيد، وحرفوا الكلم عن مواضعه. فجعلوا إلها خاصاً لبني إسرائيل وحدوه. ولكنهم جعلوه إلها قومياً ينصرهم على أصحاب الآلهةالآخرين! وذلك فوق ما افتروا على "اله إسرائيل" ذاته فقالوا " نحن أبناء الله وأحباؤه". وهو لا يعذبنا بذنوبنا، وقالوا: "عزير ابن الله" وقالوا عنه: إن له أبناء تزاوجوا مع بنات الناس فولدوا العمالقة، الذين خاف الإله منهم أن يصبحوا آلهة مثله، فنزل وبلبل ألسنتهم! وقالوا: إن يعقوب صارع هذا الإله مرة، وضربه فخلع حقوه! وقالوا عنه: إنه يتمشى في ظلالالحديقة ويتبرد بهوائها، وقالوا عنه: إنه يحب ريح الشواء… الى آخر هذه الأساطير التي شوهت وطمست عقيدة التوحيد. " (18 ، 19 )

وهكذا ضيع بنو إسرائيل عقيدة التوحيد و حرفوا الكلم عن مواضعه .

ومما زاد الطين بله أن " يهوا " إله بني إسرائيل أصبح علي أيديهم  اله عنصري ومدمر . يقول : " أما إله بني إسرائيل "يهوا" – كما ترسمه تصوراتهم المنحرفة – فهو اله إسرائيل الخاص! الذي يغار من عبادة شعب إسرائيل للآلهةالغريبة، فيثور ويغضب ويحطم وينتقم. حتى إذا عاد الشعب إليه رضي واستراح. وكف عن النقمة والتدمير. وندم على ما فعل بشعبه المختار! . " (20 ، 21 ) يعني ذلك أن تصور اليهود للتوحيد محرف بفعل أيديهم و هذا لا صلة له بالمطلق بالتوحيد الفطري الرباني .

ومن هذا المنطلق أرسل عيسي عليه السلام لينشر التوحيد الإلهيالخالص بين بني قومه . يقول : " وجاء عيسى عليه السلام بالتوحيد.. ثم انتهت عقائد النصارى إلىالتثليث، الذي يحاولون أن يصفوه بالتوحيد، بين الأقانيمالثلاثة: الأب، والابن، والروح القدس. مع الاختلاف على طبيعة الأقنوم الابن ومشيئته .. مما يجعل "التوحيد" في هذه الديانة، كما تفرقت بها الطوائف، دعوى لا حقيقة لها من واقع التصورات المتنوعة للكنائس المتعددة . "(22 ، 23)

ويستطرد فيبين أن التجسيم صار سمة في هذه الديانة إلي جانب ما اعتراها من انحرافات سابقة . يقول : " والتصورات الكنسية عن طبيعة المسيح وإرادته، وتلبسهما باللاهوتية ... وهي تجعل إرادة الله متلبسة أو متجسمة في إرادة المسيح .. إلى أخر هذا الركام! . " (24) من الجاهلية التي استعانت بنظريات الفلسفة اليونانية من حلول وتجسيد لحل أهم مشكلة عقدية تواجه النصارى ، وهي تحديد طبيعة شخصية المسيح عليه السلام .

المطلب الثاني : الفلسفة اليونانية :

بداية أشير إلي أن الأستاذ سيد قطب يرحمه الله عندما يتكلم عن " مبحث الألوهية " عند فلاسفة اليونانيينيعبر عنه بمصطلح " التوحيد " ، و هذا المصطلح مصطلح إسلامي ، ولا نعني بذلك أن هذا المصطلح حكر على المسلمين دون غيرهم و لكن اعتقد أنه عندما نتحدث عن مسالة " الألوهية في الإسلام " من الضروري أن نستخدم مصطلح " التوحيد " لأن له معاني ودلالات في اللغة العربية بعينها أما في غير العربية فله معان ودلالات لا تتطابق مع المعاني والدلالات الواردة في اللغة العربية  وبالتالي لا يحدث لبس عند المتلقي .  فمسالة تحديد المصطلحات مسالة غاية في الأهمية ، واعتقد أنها تدخل في إطار ما نطلق عليه الدفاع عن الإسلام .

يشير  الأستاذ سيد قطب يرحمه الله إلي أنه يوجد فلسفات تقر بالتوحيد لله تعالي لكنها نفت عن الله سبحانه و تعالي بعض صفاته في حين أثبت له التصور الإسلامي كل صفاته ، ولذلك يعد تصور هذه الفلسفات لصفات الله تعالي تصورا سلبيا عكس التصور الإسلامي فهو تصور إيجابي . يقول : " وإفرادالله سبحانه بالألوهية يصاحبه في القرآن كثيرا إفراده سبحانه بالملكوالهيمنةالسلطان والقهر , فالتوحيد الإسلامي ليس مجرد توحيد ذات الله . وإنماهوتوحيد إيجابي . توحيد الفاعلية والتأثير في الكون , وتوحيد السلطان والهيمنةأيضا . ومتىشعرت النفس أن لله ما في السموات وما في الأرض . وأنه بكل شيء محيط , لايندشيء عن علمه ولا عن سلطانه . . كان هذا باعثها القوي إلى إفراد الله سبحانهبالألوهيةوالعبادة ; والى محاولة إرضائه بإتباع منهجه وطاعة أمره . . وكل شيء ملكه . وكل شيء في قبضته . وهو بكل شيء محيط. وبعضالفلسفات تقرر وحدانية الله . ولكن بعضها ينفي عنه الإرادة . وبعضها ينفيعنهالعلم . وبعضها ينفي عنه السلطان . وبعضها ينفي عنه الملك . . إلى آخر هذاالركامالذي يسمى "فلسفات ! " . . ومن ثم يصبح هذا التصور سلبيا لا فاعلية له فيحياةالناس , ولا أثر له في سلوكهم وأخلاقهم ; ولا قيمة له في مشاعرهم وواقعهم . .كلام ! مجرد كلام !. إنالله في الإسلام , له ما في السموات وما في الأرض . فهو مالك كل شيء . . وهوبكلشيء محيط . فهو مهيمن على كل شيء . . وفي ظل هذا التصور يصلح الضمير . ويصلحالسلوك . و تصلح الحياة . " (25)

إذا التصور الفلسفي للإلوهية غير واقعي في حين التصور الإسلامي للتوحيد الرباني وقعي و فطري كذلك يتفق مع الفطرة الإنسانية .

وإذا كنا نتفق مع الأستاذ سيد قطب يرحمه الله فيما أسلفناإلاأننا نختلف معه في وصفه " لله جل و علا " بالملك، والهيمنة ،والسلطان ، والقهر. ويبدو ذلك بوضوح في تفسيره لآية استواء الله سبحانه و تعالي على العرش . وهذا التفسير الذي يطرحه الأستاذ سيد قطب يرحمه الله هو تفسير الجهمية والمعطلة و ليس تفسير السلف الصالح وأهل السنة والجماعة . وهو في ذلك يخالف المبادئ الأساسية التي وضعها الأستاذ حسن البنا يرحمه الله لجماعة الإخوان المسلمين من أنها جماعة سلفية وسنية . (26)

     ويبرر الأستاذ سيد قطب يرحمه الله موقفه هذا من الفلسفة والفلاسفة بأن الحالة الفكرية و الثقافية واللاهوتية قبل الإسلام كانت قمة في الجاهلية والتيه و كانت ركام ممتلئ بالوثنية والزيف و الخرافة والأساطير و الفلسفة المنحرفة عن المنهج الرباني . يقول : " لقدجاء الإسلام وفي العالم ركام من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفاتوالأوهاموالأفكار . . يختلط فيها الحق بالباطل , والصحيح بالزائف , والدينبالخرافة ،والفلسفة بالأسطورة . . والضمير الإنساني تحت هذا الركام الهائل يتخبطفيظلمات وظنون , ولا يستقر منها على يقين .وكانالتيه الذي لا قرار فيه ولا يقين ولا نور , هو ذلك الذي يحيط بتصور البشريةلإلهها،وصفاته وعلاقته بخلائقه , ونوع الصلة بين الله والإنسان على وجه الخصوص .ولميكن مستطاعا أن يستقر الضمير البشري على قرار في أمر هذا الكون , وفي أمرنفسهوفي منهج حياته , قبل أن يستقر على قرار في أمر عقيدته وتصوره لإلهه وصفاته ,وقبلأن ينتهي إلى يقين واضح مستقيم في وسط هذا العماء وهذا التيه وهذا الركامالثقيل . ولايدرك الإنسان ضرورة هذا الاستقرار حتى يطلع على ضخامة هذا الركام , وحتىيروضهذا التيه من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار التيجاءالإسلام فوجدها ترين على الضمير البشري ... " (27)

لقد أرسل الله سبحانه و تعالي رسوله صلي الله عليه و سلم ليخرج العباد من الظلمات إليالنور ، أرسله ليدعو الناس إلي عبادة رب العباد وليس لعبادة الإلهةآلهةالأوليمب أو آلهةالرومان أو أية آلهة أخرى .

     ويبدو ذلك بوضوح و جلاء في الحضارة اليونانية فعندما يشير الأستاذ سيد قطب يرحمه الله إلي مفهوم  أو طبيعة الألوهية في الأسطورة اليونانية ، يبين كيف أن اليونانيينألهوا الطبيعة ، وكيف أنهم أضفوا على الإلهة صفات البشر ، مما أدي إلي تصوير الآلهة عندهم تصويرا بعيد كل البعد عن الفطرة الإنسانية وعن العقل البشري الصحيح . يقول : " وفرق كذلك بين الذي يتعامل مع اله شهواني. متعجرف. ظالم. متهور. متقلب الأهواء كاله الإغريق –بزعمهم-: "زيوس" أو "جوبيتير" الذي كانوا يصورونه "حقوداً. لدوداً. مشغولاً بشهوات الطعام والغرام. لا يبالي من شؤون الأرباب والمخلوقات ما يعينه على حفظ سلطانه، والتمادي في طغيانه. وكان يغضب على "اسقولاب" اله الطب –بزعمهم- لأنه يداوي المرضى، فيحرمه جباية الضريبة على أرواح الموتى الذين ينتقلون من ظهر الأرض إلى باطن الهاوية! وكان يغضب على "برومثيوس" اله المعرفة والصناعة –بزعمهم- لأنه يعلّم "الإنسان" أن يستخدمالنار في الصناعة، وأن يتخذ من المعرفة قوة تضارع قوة الأرباب. وقد حكم عليه بالعقاب الدائم، فلم يقنع بموته، ولا بإقصائه عن حظيرة الإلهة، بل تفنن في اختراع ألوانالعذاب له. فقيده إلى جبل سحيق، وأرسل عليه جوارح الطير تنهش كبده طوالالنهار، حتى إذا جن الليل عادت سليمة في بدنه، لتعود الجوارح الى نهشها بعد مطلع الشمس ولا يزال هكذا دواليك في العذاب الدائم مردود الشفاعة مرفوض الدعاء" وأنه كان يخادع زوجته "هيرة" ويرسل اله الغمام –بزعمهم- لمدارة الشمس في مطلعها، حذراً من هبوب زوجته الغيري عليه مع مطلع النهار، ومفاجأته بين عشيقاته على عرش "الأوليمب".. " (28 ، 29 )

نستفيد من ذلك أن الأسطورة اليونانية أو الدين اليوناني كان يقوم على تعدد الإلهة ، فقد جعل اليونانيون لكل شيء في الوجود اله هو المسئول عنه ، وهذا الشرك وتلك الوثنية غريبة كل الغربة عن التصور الإسلامي الرباني الصحيح . مع العلم بأن مجمع الآلهة عند اليونانيين وعلي رأسهم رب الأرباب أو كبير الآلهة زيوس لم يخترعه اليونانيون اختراعا بل أنهم نقلوا ذلك عن قدماء المصريين بعد تغير أسماء الآلهةالمصرية بأسماء يونانية .

وبعد أن أشار إليالحالة الجاهلية في الحضارة اليونانية قبل ظهور الفلسفة  ينتقل إليالحديث عن فلاسفة اليونانيينالكبار و المشهورين وكله أمل أن تكون أطروحات هؤلاء الفلسفة أفضل حالا مما ورد في الأساطير اليونانيةالسابقة علي ظهور الفلسفة اليونانية .

فنجده يشير إلي مذهب الفيلسوف اليوناني أفلاطون ( 427 – 347 ق.م ) في نظرية المثل لكي يستقي منها رأيه عن الصانع ، وصفاته ، وكيفية إيجاد العالم المادي المحسوس . يقول :  "فالوجود في مذهب أفلاطون طبقتان متقابلتان: طبقة العقل المطلق، وطبقة المادة الأولية أو الهيولي " Hyle" والقدرة كلها من العقل المطلق، والعجز كله من الهيولي .. وبين ذلك كائنات على درجات، تعلو بمقدار ما تأخذ من العقل، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولي... وهذه الكائنات المتوسطة، بعضها أرباب، وبعضها أنصاف أرباب، وبعضها نفوس بشرية. وقد ارتضى أفلاطون وجود تلك الأرباب المتوسطة، ليعلل بها ما في العالم من شر ونقص وألم، فإن العقل المطلق كمال لا يحده الزمان والمكان، ولا يصدر عنهإلاالخير والفضيلة. فهذه الأرباب الوسطى هي التي تولت الخلق، لتوسطها بين الإلهالقادر والهيولي العاجزة.. فجاء النقص والشر والألم من هذا التوسط بين الطرفين !!! . " (30) و هذا ما سنجده بعد ذلك واضحا في نظرية الفيض أو الصدور عند الفيلسوف اليونانيأفلوطين (204– 270 م ) ، الذي تأثر بفلسفة أفلاطون و كذلك بفلسفة أرسطو ( 384 - 322 ق. م ) ، و تأثر أيضا بغيرهم من الفلاسفة اليونانيينالسابقين عليه . ولم يطلق أفلوطين على هذه الوسائط مصطلح " الأرباب الوسطي " بل أطلق عليها اسم " العقول المفارقة " و بعض الباحثين يطلق عليها اسم " العقول العشرة " .

ويبين صفات عالم المثل و عالم الحس عند أفلاطون على النحو الآتي : "وكل هذه المظاهر المادية بطلان وخداع، لأنها تتغير وتتلون، وتتراءى للحس على أشكال وأوضاع لا تصمد على حال  ... وإنما الصمود والدوام للعقل المجرد دون غيره. وفي العقل المجرد تستقر الموجودات "الصحائح" أو المثل كما سميت في الكتب العربية. وهي كالعقل المجرد خالدة دائمة. لا تقبل النقص ولا يعرض لها الفساد !!! ...وهذه الصحائح هي المثل العليا لكل موجود يتلبس بالمادة أو الهيولي. فكل شجرة مثلاً فيها صفة أو صفات ناقصة من نعوت الشجرية. فأين هي الشجرة التي لا نقص فيها؟ هي في عقل الله منذ القدم. وكل تلبس بالمادة من خصائص الشجرية، فهو محاكاة لذلك المثل الأعلى . " (31)

يبدو مما سبق أن الأستاذ سيد قطب يرحمه الله يستخدم لفظ الجلالة " الله " للتعبير عن الإله عند أفلاطون أو بتعبير أفلاطون " الصانع " . ويمكننا القول أنه يرحمه الله جانبه الصواب في استخدامه للفظ الجلالة " الله " في هذا الموضع و في غيره من المواضع الأخرى المشابهة التي يشير فيها إلي آراء الفلاسفة عامة وفلاسفة اليونان خاصة ، لأن أفلاطون لم يستخدم لفظ الجلالة أساسا في محاوراته بل استخدم لفظ الإله و الصانع ، وأيضا لأن لفظ الجلالة معناه ودلالاته في اللغة العربية تختلف عنها في اللغات : اليونانية ،  والإنجليزية ، والفرنسية وفي غيرها من اللغات . وكان من الأفضل أن يستخدم يرحمه الله هنا لفظ الإله أو الصانع ، وهذا نفس ما سيسير عليه عند عرضه لمسألة الألوهية عند أرسطو .

      ويوضح نظرية المثل عند أفلاطون من خلالالمثالالآتي . يقول : " كذلك تتضح واقعية الكون في التصور الإسلامي، حين نراجع تصور أفلاطون لهذا الوجود المادي. وأنه مجرد ظل لعالم المثل. فالشجرة التي تراها هي ظل لمثالالشجرة المكنون في العقل المطلق! وهو ناقص لا يمثل كمالالمثالالذي هو في عقل الإله و "النفس الكلية" –التي هي من عالم المثل- هي الصلة بين الأشياء "المثالية" كما هي في العقل المطلق، والأشياء الصورية ظلالالمثل –غير الحقيقية- التي هي في عالم المادة، الذي نلمسه ونراه! . " (32)

يبدو واضحا مما سبق أن الأستاذ سيد قطب يرحمه الله لم يبذل الجهد المطلوب في فهم فلسفة أفلاطون ، ولذلك يمكن القول أن عرضه لآراء أفلاطون ينم عن عدم فهم عميق لها أو عدم اطلاع جيد عليها . (33)

     ويقارن بين التصور الإسلامي للكون و الإنسان وما عداه من جاهلية في الفلسفة اليونانية . يقول : " والتوازن بين فاعلية "الإنسان" وفاعلية الكون. وبين مقام الإنسان ومقام الكون. وقد سلم التصور الإسلامي في هذه النقطة من جميع الأرجحات، وجميع التقلبات التي صاحبت الفكر البشري، كلما انحرف عن منهج الله. وتتضح استقامة التصور الإسلامي تجاه الكون والإنسان، حين يراجع ركام الفلسفات والتصورات والمعتقدات المختلفة.لقد كان أفلاطون يضع المادة في الدرك الأسفل من القيمة والاعتبار. "فالوجود في مذهب أفلاطون طبقتان متقابلتان: طبقة العقل المطلق، وطبقة المادة أو "الهيولي". والقدرة كلها من العقل المطلق، والعجز كله من الهيولي. وبين ذلك كائنات على درجات تعلو بقدر ما تأخذ من العقل، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولي... فالهيولي مقاومة للعقل المجرد، وليست موجدة بمشيئته من العدم"وأفلوطين –في الأفلاطونية الحديثة- يجعل المادة في الدرك نفسه. فالواحد الأحد خلق العقل، والعقل خلق الروح، والروح خلقت ما دونها من الموجودات، على الترتيب الذي ينحدر طوراً دون طور إلى عالم الهيولي، أو عالم المادة والفساد . " (34)

يتضح مما ذكره أفلوطين سلفا أن العقل الأول صدر عن ما يعبر عنه بمصطلح " الواحد الأحد " ، فعندما تأمل الأخير ذاته ، و لما كان من صفاته الجود والكرم صدر أو فاض عنه العقل الأول . والعقل الأول بدوره تأمل ما يسمي بـ " الواحد الأحد" فصدر أو فاض عنه الروح أو النفس الكلية للوجود . وفاض أو صدر عن هذه النفس الكلية للوجود كل الأنفس الموجودة في الوجود . وصدر أو فاض أيضا عن العقل الأول كل ما تلاه من عقول حتى نصل في سلسلة العقول إلي العقل العاشر . ولذلك تسمي هذه النظرية بنظرية العقول العشرة ، ونظرية العقول المفارقة .

ويلاحظ هنا أيضا أن الأستاذ سيد قطب يرحمه الله عندما يعبر عن الإله عند أفلوطين يستخدم مصطلح " الواحد الأحد " وأحيانا يستخدم مصطلح " الأحد" وهذه تعبيرات عربية إسلامية قد توهم القارئ أن أفلوطينالفيلسوف اليوناني كان توحيده أقرب إليالإسلام منه إليالفلسفة .

وعموما فإن أفلوطين لم يستخدم في حديثه عن نظرية الفيض أو الصدور هذا التعبير العربي الإسلامي بل استخدم تعبير " الواحد " – علي نحو ما يرد في الترجمات العربية لتاسوعاته - ليوضح كيفية فيض أو صدور العالم عن الواحد .

ولفظ " الواحد " موجود في الترجمات العربية لتسوعاتأفلوطين و في كتب الفلسفة اليونانيةالتي أرخت لفلسفته .

     وأعتقد أن من الضروري استبدال هذا المصطلح بتعبير فلسفي آخر مثل " الواجب بذاته  " .

     وعموما فإن اله أفلوطين ليس سوي  فرض عقلي مثل غيره من الفروض العقيلة التي طرحها فلاسفة اليونانيين ، وهذا ما سيصرح به الأستاذ سيد قطب يرحمه الله بعد ذلك . وبقول كلي من يراجع نظرية الفيض أو الصدور الأفلوطينية يجدها في مفهوم الألوهية انحرفت تماما عن التصور الصحيح الذي ورد في العقيدة الإسلامية .

     ويشير يرحمه الله إلي صفات الإله أو المحرك الأول عند أرسطو . يقول : " مذهب أرسطو في الإله أنه كائن أزلي أبدي، مطلق الكمال، لا أول له ولا آخر، ولا عمل له ولا إرادة! مذ كان العمل طلباً لشيء. والله غني عن كل طلب. وقد كانت الإرادة اختياراً بين أمرين، والله قد اجتمع عنده الأصلح الأفضل من كل كمال، فلا حاجة إلىالاختيار بين صالح وغير صالح، ولا بين فاضل ومفضول. وليس مما يناسب الإله –في رأي أرسطو- أن يبتدئ العمل في زمان، لأنه أبدي سرمدي، لا يطرأ عليه طارئ يدعوه إلىالعمل، ولا يستجد عليه من جديد في وجوده المطلق بلا أول ولا آخر، ولا جديد ولا قديم. وكل ما يناسب كماله فهو السعادة بنعمة بقائه، التي لا بغية وراءها، ولا نعمة فوقها ولا دونها، ولا تخرج من نطاقها عناية تعنيه! " (35)

يستخدم هنا الأستاذ سيد قطب يرحمه الله مصطلحات إسلامية مثل " الأول و الآخر " ، و يشير إليالمحرك الأول عند أرسطو بلفظ الجلالة " الله " مما يوحي للقارئ – مرة أخري -  بأن تعبيرات أرسطو إسلامية ، وهذا ليس صحيحا بالمطلق .

     ولقد كان من الأفضل هنا أن يستخدم مصطلحات أرسطو نفسه ، تلك المصطلحات الشائعة في كتبه و كتب الفلسفة اليونانيةالتي كتبت عن أرسطو .

لقد قلد الفلاسفة المنتسبين إليالإسلام ومن على شاكلتهم فلاسفة اليونان وألبسوهم ثيابا إسلامية حتى يتيسر لهم نشر فلسفتهم داخل البيئة الإسلامية ، ونحن نريد أن ننأ بالأستاذ سيد قطب يرحمه عن هذا الاتهام الخطير أقصد أن لا يتهم بأنه يسير على درب الفلاسفة المنتسبين للإسلام وهذا يبدو بوضوح و جلاء بالغين في موقفه من الفلسفة اليونانيةالتي يراها سبب بلاء الدنيا كلها . 

ويستطرد يرحمه الله موضحا صفات الإله عند أرسطو . يقول : "فالإلهالكامل المطلق الكمال، لا يعنيه أن يخلق العالم، أو يخلق مادته الأولى –وهي الهيولي- ولكن هذه "الهيولي" قابلة للوجود، يخرجها من القوة إلىالفعل شوقها إلىالوجود، الذي يفيض عليها من قبل الإله، فيدفعها هذا الشوق إلىالوجود، ثم يدفعها من النقص إلىالكمالالمستطاع في حدودها، فتتحرك وتعمل، بما فيها من الشوق والقابلية، ولا يقال عنها: إنها من خلقة الله،إلاأن تكون الخلقة على هذا الاعتبار". (36)

والملاحظ - مرة أخرى -  أن الأستاذ سيد قطب يرحمه الله يستخدم لفظ الجلالة " الله " للتعبير عن إله أرسطو أو محركه الأول على حد تعبيره ، وهذا أمر منافي للعقيدة الإسلامية على نحو ما ذكرنا سابقا . وهذا التكرار يضع أمامنا أكثر من سؤال . هل الأستاذ سيد قطب يرحمه الله لم يستوعب الفلسفة اليونانية بالقدر الكافي ؟ . هل استغرقته أم استهوته ؟ ..

وعندما يريد أرسطو أن يثبت وجود محرك أول لهذا العالم يثبته علي النحو الآتي " "والله عند أرسطو هو العلة الأولى، أو المحرك الأول ... فلا بد لهذه المتحركات من محرك، ولابد للمحرك من محرك آخر متقدم عليه. وهكذا حتى ينتهي العقل إلى محرك بذاته، أو محرك لا يتحرك، لأن العقل لا يقبل التسلسل في الماضي إلى غير نهاية. " . (37)

     ولما كان المحرك الأول عند أرسطو ثابت و لا يتحرك فمن الضروري " أن يكون سرمداً، لا أول له ولا آخر، وأن يكون كاملاً منزهاً عن النقص والتركيب والتعدد، وأن يكون مستغنياً بوجوده عن كل موجود... وهذا المحرك سابق للعالم في وجوده، سبق العلة لا سبق الزمان، كما تسبق المقدمات نتائجها في العقل، ولكنها لا تسبقها في الترتيب الزمني. لأن الزمان حركة العالم، فهو لا يسبقه. أو كما قال: "لا يُخلَق العالم في زمان". " (38)

مما لاشك فيه أن قول أرسطو بأن المحرك الأول أو الإله ثابت و لا يتحرك يتعارض مع العقيدة الإسلامية التي تخبرنا بأن الله سبحانه و تعالي ينزل في الثلث الأخير من الليل . و هذا ما لم يذكره الأستاذ سيد قطب يرحمه الله ، ولا أدري لماذا ؟ ! . ولو عادالأستاذ سيد قطب يرحمه اللهإلي موقف أهل السنة و الجماعة من الفلسفة اليونانية لوجد هذا الموقف مثبت عندهم ، ولا أدري لماذا لم يستفد الأستاذ سيد قطب يرحمه الله من تراث أهل السنة والجماعة الرافض للفلسفة اليونانية في ضوء العقيدة الإسلامية ، وموقف أهل السنة ثابت ومعروف لكل المتخصصين في مجالالعقيدة و الفلسفة . وهذا نفس ما وجدناه عند الأستاذ البنا يرحمه الله ، فهو كذلك لم يشر ولو إشارة عابرة لموقف أهل السنة والجماعة الرافض للفلسفة اليونانية . هل الأستاذان البنا ، وسيد قطبيرحمهما الله لم يعلموا بموقف أهل السنة الرافض للفلسفة اليونانية ؟ ! . ألم يؤسس الأستاذ البنا يرحمه الله الجماعة على أنها سلفية و سنية ؟ ! . وإذا كان الأمر كذلك ، فأين موقف السلف الصالح وأهل السنة والجماعة من الفلسفة اليونانية في كتابات كل من الأستاذ البنا يرحمه الله و كتابات الأستاذ سيد قطب يرحمه الله  .(39)                         

ويؤكد أرسطو بما لا يدع مجالا للشك على قدم العالم ، فالعالم عنده قديم لأن المادة الأولي عند قديمة . يقول : " وعلى هذا يقول أرسطو بقدم العالم على سبيل الترجيح الذي يقارب اليقين.إلاأنه يقرر في كتاب "الجدل" أن قدم العالم مسالة لا تثبت بالبرهان... وإجمال براهينه في هذه القضية: أن إحداث العالم يستلزم تغييراً في إرادة الله. والله منزه عن الغير. فهو إذا أحدث العالم، فإنما يحدثه ليبقى –جل جلاله- كما كان. أو يحدثه لما هو أفضل. أو يحدثه لما هو مفضول. وكل هذه الفروض بعيدة عما يتصوره أرسطو في حق الله. فإذا حدث العالم وبقي الله كما كان، فذلك عبث. والله منزه عن العبث. وإذا أحدثه ليصبح أفضل مما كان، فلا محل للزيادة على كماله. وإذا أحدثه ليصبح مفضولاً، فذلك نقص يتنزه عنه الكمال!... وإذا كانت إرادة قديمة لا تتغير، فوجود العالم ينبغي أن يكون قديماً كإرادة الله. لأن إرادة الله هي علة وجود العالم. وليست العلة مفتقرة إلى سبب خارج عنها، فلا موجب إذن لتأخر المعلول عن علته، أو لتأخر الموجودات عن سببها الذي لا سبب غيره... فالإنسان يجوز أن يريد اليوم شيئاً ثم يتأخر إنجازه، لنقص الوسيلة، أو لعارض طارئ، أو لعدول عن الإرادة. وكل ذلك ممتنع في حق الله! . " (40،41)

إذا العالم قديم عند أرسطو و هذا منافي للعقيدة الإسلامية التي تؤكد على أن العالم مخلوق و أن الله سبحانه و تعالي خلقه عن عدم محض .

والمحرك الأول عند أرسطو لا يعلم شيئا على الإطلاق عن العالم ، و لا صلة له به على الإطلاق . يقول : " وقد أفرط أرسطو في هذا القياس، حتى قال: إن الله –جل وعلا- لا يعلم الموجودات، لأنها أقل من أن يعلمها. وإنما يعقل الله أفضل المعقولات. وليس أفضل من ذاته، فهو يعقل ذاته، وهو العاقل والعقل والمعقول. وذلك أفضل ما يكون !!! . .. وفرق أرسطو بين اله "واجب الوجود" وكون "ممكن الوجود" .. غير أنه جعل إلهه هذا الواحد، سلبياً تجاه الكون. فهو أولاً لم يخلق الكون. ولا علاقة له بتدبيره. إنما هذا الكون يتحرك بشوق كامن فيه إلى واجب الوجود، تقل من حالة "مكان الوجود" إلى حالة "الوجود". (42)

نستفيد من ذلك أن إله أرسطو أو محركه الأول أناني يهتم بذاته أكثر من اهتمامه بهذا الكون ، وهذا يدل على أن طرح أرسطو لفكرة المحرك الأول أو الإله أنه طرح عقلي محض لا صلة له بهذا العالم الواقعي الذي نعيش فيه .

     نعم ، زعم أرسطو  أن إلهه أو بتعبير أرسطو " المحرك الأول " أوجد العالم وتركه لحال سبيله دون عناية أو رعاية ، فهو يفكر في ذاته فحسب ، أما هذا الوجود فلا يستحق منه أن يرعاه أدني رعاية لأن ذلك يقلل من شأن هذا الإلهالمحرك الأول . يقول : " شمول هذه الربوبية للعالمين جميعا , هي مفرقالطريقبين النظام والفوضى في العقيدة . لتتجه العوالم كلها إلى رب واحد , تقر لهبالسيادةالمطلقة , وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة , وعنت الحيرة كذلك بينشتىالأرباب . . ثم ليطمئن ضمير هذه العوالم إلى رعاية الله الدائمة وربوبيتهالقائمة . والى أن هذه الرعاية لا تنقطع أبدا ولا تفتر ولا تغيب , لا كما كان أرقىتصورفلسفي لأرسطو مثلا يقول بأن الله أوجد هذا الكون ثم لم يعد يهتم به , لأن اللهأرقىمن أن يفكر فيما هو دونه ! فهو لا يفكرإلافي ذاته ! وأرسطو - وهذا تصوره -هوأكبر الفلاسفة , وعقله هو أكبر العقول !" (43)

بالفعل كيف أن أرسطو وهو من أكابر الفلاسفة أن يصف محركه الأول أو الإله بهذا الوصف الذي لا يتناسب بالمطلق مع اله موجد لهذا العالم . وهذا يدل– مرة أخري – على أن محرك أرسطو الأول أو إلهه فرض ذهني وهو لا يتشابه مع مفهوم الألوهية في الإسلام بالمطلق .

     ذلك يعني أن تصور أرسطو للإله أو المحرك الأول – علي نحو ما يعبر عنه – سلبي في حين أن الله عز وجل في التصور الإسلامي إيجابي . يقول : "صفة(القيوم). . تعني قيامه - سبحانه - على كل موجود . كما تعني قيام كلموجودبه فلا قيام لشيءإلامرتكناإلى وجوده وتدبيره . . لا كما كان أكبر فلاسفةالإغريق - أرسطو - يتصور أن الله لا يفكر في شيء من مخلوقاته , لأنه تعالى أن يفكرفيغير ذاته ! ويحسب أن في هذا التصور تنزيها لله وتعظيما ; وهو يقطع الصلة بينهوبينهذا الوجود الذي خلقه . . وتركه . . فالتصور الإسلامي تصور إيجابي لا سلبي .يقومعلى أساس أن الله - سبحانه - قائم على كل شيء , وأن كل شيء قائم في وجوده علىإرادةالله وتدبيره . . ومن ثم يظل ضمير المسلم وحياته ووجوده ووجود كل شيء من حولهمرتبطابالله الواحد ; الذي يصرف أمره وأمر كل شيء حوله , وفق حكمة وتدبير , فيلتزمالإنسانفي حياته بالمنهج المرسوم القائم على الحكمة والتدبير ; ويستمد منه قيمهوموازينه , ويراقبه وهو يستخدم هذه القيم والموازين ." (44)

ويرجع هذا التصور الإيجابي لله سبحانه وتعالي في الإسلام لأنه جل وعلا هو الخالق لكل ما عداه من مخلوقات ، ومن مسؤوليات الخالق تجاه ما خلق العناية و التدبير. أما أرسطو فتصوره للإلوهية تصور عقلي ناقص لا يليق بمقام الله سبحانه و تعالي .

     ويستطرد الأستاذ سيد قطب يرحمه الله في عرضه لموضوع التوحيد في الإسلام ، وكيف أن الله سبحانه وتعالي في الإسلام يعتني بهذا العالم الذي خلقه ، و كيف يحمد الإنسان المسلم ربه على رعايته لهذا العالم علي عكس ما نراه في الأساطير والفلسفات التي طرحها اليونانيون . يقول : " إنجمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها . .كلهذا لا يتجلى للقلب والعقل كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية من العقائدوالتصورات، والأساطير والفلسفات ! وبخاصة موضوع الحقيقة الإلهية وعلاقتها بالعالم . . عندئذ تبدو العقيدة الإسلامية رحمة . رحمة حقيقية للقلب والعقل , رحمة بما فيهامنجمال وبساطة , ووضوح وتناسق , وقرب وأنس , وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق .(الرحمن الرحيم). . هذه الصفة التي تستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتهاتتكررهنا في صلب السورة [ يقصد : سورة الفاتحة ] , في آية مستقلة , لتؤكد السمة البارزة في تلك الربوبيةالشاملة ; ولتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الرب ومربوبيه . وبين الخالق ومخلوقاته . . إنها صلة الرحمة والرعاية التي تستجيش الحمد والثناء . إنها الصلة التي تقوم علىالطمأنينةوتنبض بالمودة , فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة الندية .إنالرب الإله في الإسلام لا يطارد عباده مطاردة الخصوم والأعداء كإلهةالأوليمبفينزواتها وثوراتها كما تصورها أساطير الإغريق . ولا يدبر لهم المكائد الانتقاميةكماتزعم الأساطير المزورة في "العهد القديم" كالذي جاء في أسطورة برج بابل فيالإصحاحالحادي عشر من سفر التكوين ." (45) لذا تجد آلهةاليونانيين تأكل ، وتشرب ، وتزني ، وتسرق ، وتقتل وغيرها من الصفات البشرية التي تتحلي بها آلهةاليونانيين كما هو واضح في الأساطير اليونانيةالقديمة . فالعلاقة بين الآلهة والبشر علاقة صراع بالفعل . وهذا التصور اليونانيللإلوهيةيتنافي تماما مع صحيح العقل والفطرة السليمة . وهذا ما نجده كذلك في الأساطير المنتشرة في العهد القديم .(46)

    وفيما يتعلق  بتصور الإسلام لخلق الموجودات فيكون عن طريق قول الحق تبارك وتعالي للموجود " كن فيكون " في حين أن الفلاسفة حاولوا أن يخوضوا في غمار هذا الأمر فلم يفلحوا لأنهم اعتمدوا على العقل في تفسيرهم لمسالة الخلق حيث أن هذا الأمر ليس في مقدور العقل . يقول : "  هنانصل إلى فكرة الإسلام التجريدية الكاملة عن الله سبحانه , وعن نوع العلاقةبينالخالق وخلقه , وعن طريقة صدورالخلق عن الخالق , وهي أرفع وأوضح تصور عن هذهالحقائقجميعا . . لقد صدرالكون عن خالقه , عن طريقتوجه الإرادة المطلقة القادرة:( كن , فيكون) [البقرة : 119]. . فتوجه الإرادة إلى خلق كائن ما كفيل وحده بوجود هذا الكائن , علىالصورةالمقدرة له , بدون وسيط من قوة أو مادة . . أما كيف تتصل هذه الإرادة التيلانعرف كنهها , بذلك الكائن المراد صدوره عنها , فذلك هو السر الذي لم يكشفللإدراكالبشري عنه , لأن الطاقة البشرية غير مهيأة لإدراكه . وهي غير مهيأةلإدراكهلأنه لا يلزمها في وظيفتها التي خلقت لها وهي خلافة الأرض وعمارتها . .وبقدرما وهب الله للإنسان من القدرة على كشف قوانين الكون التي تفيده في مهمته ,وسخرله الانتفاع بها , بقدر ما زوي عنه الأسرار الأخرى التي لا علاقة لها بخلافتهالكبرى .. " (47)

يبدو واضحا أن الأستاذ سيد قطب يرحمه الله يستخدم هنا مصطلحا فلسفيا أفلوطينيا محدثا و هو يعبر عن خلق الله سبحانه و تعاليللمخلوقات و هو " صدر ، صدور " وأعتقد أن هذا المصطلح غير مناسب للسياق البتة ، وأنه كان من الأفضل أن يستخدم الأستاذ سيد قطب يرحمه الله مصطلحا قرآنيا آخر ليعبر عن مسالة الخلق في الإسلام مثال : " خلق ، فطر ،،،الخ . " إلاإذا كان قصد الأستاذ سيد قطب يرحمه الله هو توجيه انتقادات لنظرية الصدور أو الفيض الأفلوطينيةالمحدثة ، لكنه  لم يصرح في هذا الموضع بأنه ينتقدها بل الواضح و الجلي أنه يشرح كيفية خلق المخلوقات في العقيدة الإسلامية . وهذا نفس ما أشرنا إليه سابقا مع أفلاطون وأرسطو .

     ويؤكد الأستاذ سيد قطب يرحمه الله على ما سبق حيث يقول : " وآيةأن ما يتم بالرسالة - عن طريق العقل نفسه - لا يمكن أن يتم بغيرها ; فلايغنيالعقل البشري عنها . . إن تاريخ البشرية لم يسجل أن عقلا واحدا من العقولالكبيرةالنادرة اهتدى إلى مثل ما اهتدت إليه العقول العادية المتوسطة بالرسالة . .لافي تصور اعتقادي ; ولا في خلق نفسي , ولا في نظام حياة , ولا في تشريع واحد لهذاالنظام . . إنعقول أفلاطون وأرسطو من العقول الكبيرة قطعا . . بل إنهم ليقولون:إن عقلأرسطوهو أكبر عقل عرفته البشرية - بعيدا عن رسالة الله وهداه - فإذا نحن راجعناتصورهلإلهه - كما وصفه - رأينا المسافة الهائلة التي تفصله عن تصور المسلم العاديلإلههمهتديا بهدى الرسالة ."  (48)

     وعلي الرغم مما قدمنا من رفض  الأستاذ سيد قطب يرحمه الله للفلسفة جملة و تفصيلا ،إلاأننا نلمح إعجاب الأستاذ سيد قطب يرحمه الله الخفي بالفلسفة والفلاسفة . فهو عندما تحدث عن تصورات أفلاطون أرسطو خاصة تجاه الله والوجود ، تعجب من صدورها عن أذهانهم الكبيرة وخاصة ذهن فيلسوف كبير مثل أرسطو . (49)

     وبالنسبة لأفلوطين  يوضح الأستاذ سيد قطب يرحمه الله كيف صدر أو فاض العالم عن واجب الوجود في نظرية الفيض أو الصدور الأفلوطينية بقوله : " وأفلوطين – كما تقدم- يرى أن هناك "الأحد" وهو الإله. وقد صدر عنه "العقل" وعن العقل صدرت الروح أو "النفس الكلية" وهذه أوجدت العالم المحسوس نيابة عن العقل! – وهذا العالم المحسوس أصله المادة. وهي أحط الموجودات. وهي "ظلام" ! وهي شر وفساد!… الخ … وهكذا لزم أفلوطين أن يقول: إن الواحد خلق العقل. وإن العقل خلق الروح. وإن الروح خلقت مادونها من الموجودات. على الترتيب الذي ينحدر طوراً دون طور، إلى عالم الهيولي، أو عالم المادة والفساد!ومن ثم ينحصر اختصاص الإله – عند أفلوطين- في خلق العقل.. ثم تنتهي مهمته عند ذاك! . "(50)

يتضح هنا  - مرة أخرى -  أن الأستاذ سيد قطب يرحمه الله يستخدم مصطلحات إسلامية ( الواحد ، الأحد )  عندما يعبر عن اله أفلوطين ، وكان من الواجب عليه أن يستخدم مصطلحات فلسفية بدلا منها مثل مصطلح " واجب الوجود " . وأعتقد أنه من الخطأ البين أن يستخدم شخص ما مصطلحات قرآنية في مجالالدراسات الفلسفية و كذلك يستخدم مصطلحات فلسفية في مجالالدراساتالإسلامية ، فمن الضروري أن يستخدم كل منا المصطلحات المناسبة في المكان المناسب لها ، و إن لم يحدث ذلك فإنه سيترتب عليه مخالفات عقدية و فكرية كما وقع في ذلك الفرق والفلاسفة المنتسبين إليالإسلام . (51)

     و لما أراد أفلوطين أن يسير على منوال أرسطو في تنزيه إلهه عن العالم جعله فوق الوجود . يقول : "وقد بلغأفلوطين غاية المدى في تنزيه الله. فالله عنده فوق الأشباه. وفوق الصفات، ولا يمكن الإخبار عنه بمحمول يطابق ذلك الموضوع... بل هو عنده فوق الوجود !... وليس معنى ذلك أنه غير موجود، أو أنه عدم – لأن العدم دون الوجود وليس فوق الوجود – وإنما معناه أن حقيقة وجوده لا تقاس إلىالجواهر الموجودة، ولا تدخل معها في جنس واحد، ولا تعريف واحد. فهو "أحد" بغير نظير في وجوده، ولا في صفاته، ولا في كل منسوب إليه.ويغلو أفلوطين أحياناً فيقول: إن الله لا يشعر بذاته. لأنه لا يميز ذاته من ذاته فيعرفها. ولكنه لصفات وجوده يتنزه عن ذلك التمييز، ويتنزه عن ذلك الشعور!!! . " (52)

     وعلى هذا النحو يغاليأفلوطين في تنزيهه إلهه بزعمه أنه لا يشعر حتى بذاته مما يجعله أكثر تطرفا من أرسطو في وصف إلهه أو تنزيهه . يقول : أما "أفلوطين" الذي عاش في السنوات الأولى من القرن الثالث للميلاد .. فإنه يغلو فيما يراه تنزيها لإلههالأحد، حتى يتجاوز كل معقول. فإذا كان أرسطو يرى أن من كمالإلهه ألايشعر بغير ذاته، وألا يفكرإلافي ذاته لا يفكرإلافي أشرف الموجودات. وذاته هي أشرف الموجودات. وأنه لا يعلم الموجودات لأنها أقل من أن يعلمها.. إذا كان تنزيه أرسطو لإلهه وقف به عند هذا الحد، فإن أفلوطين راح يزعم أن من كمالإلههالأحد أنه لا يشعر بذاته كذلك! لأنه يتنزه عن ذلك الشعور! . " (53)

     وهكذا يقتضي مذهب أفلوطين في الألوهية وسائط بين الإله و العالم الأرضي وهي العقول العشرة أو العقول المفارقة . يقول : "  وبديه أن المذهب يقتضي وسائط متعددة لربط الصلة بين هذا الإله "الأحد" المطلق الصفاء، وبين المخلوقات العلوية، وهذه المخلوقات السفلية. ولاسيما خلائق الحيوان المركب في الأجساد. " (54) و لقد استفاد أفلوطين ذلك من نظرية أرسطو " الآلهةالثواني " أو كما يسميها بعض الباحثين و الدارسين " المحركين الثواني " .

وأخيرا و ليس آخرا ينتهي إلي أن التصور الإسلامي يتميز بالإيجابية في مقابل تصور أرسطو وأفلوطينالذي تعتريه السلبية . يقول : " والقرآن كله معرض هذه "الإيجابية" وهي أساس التصور الإسلامي –بعد التوحيد- وهي التي تتجلى فيها حقيقة التوحيد. فالتوحيد الإسلامي يمتاز بأنه توحيد الفاعلية والتأثير وليس مجرد التوحيد السلبي الذي يصفه أرسطو، أو يصفه أفلوطين! . " (55) وترجع تلك الإيجابية الإسلامية إلي واقعية الإسلام في حين ترجع السلبية اليونانيةإليالنظر العقلي اليونانيالمجرد .

وكذلك " الله " في التصور الإسلامي يختلف عن " الإله " في تصور أفلاطون ، وأرسطو ، وأفلوطين . يقول : " ومن ثم يفترق تصور الإله في الإسلام افتراقاً رئيسياً عنه في تصورات أفلاطون وأرسطو وأفلوطين. حيث تتعامل تصوراتهم مع اله "مثالي" يفرضون هم عليه "مثالية" من صنع عقولهم، ومن تصورات أحلامهم. وهو اله لا إرادة له ولا عمل. لأن هذا من مقتضى كماله أو مثاليته! ثم يضطرهم هذا الافتراض إلى افتراض وسائط شتى بين الإله والخلائق، والى تصورات وثنية وأسطورية كالتي كانت سائدة في الوثنية الإغريقية . " (56)

نستنتج من ذلك أن الأستاذ سيد قطب يرحمه الله يؤكد على أن أطروحات فلاسفة اليونان عن إلهتهم كلها فروض عقلية اخترعوها من عقولهم ، وأنها تتنافي مع التصور الإسلامي للتوحيد الإلهي . ولما كانت هذه هي النتيجة التي انتهي إليها يرحمه الله كان من الضروري أن يستخدم عند عرضه لآراء فلاسفة اليونان عن الألوهية مصلحاتهم الفلسفية والعكس أنه كان يجب عليه يرحمه الله عندما يعرض لتصور الإسلام لمفهوم الألوهية كان أولي به أيضا أن يستخدم تعبيرات قرآنية  وهذا ما يبدو تماما من موقفه الرافض لأطروحات و نظريات فلاسفة اليونانيين .

      إن توحيد أرسطو و أفلوطين و غيرهم من الفلاسفة لا يرقي أبدا إليالتوحيد في التصور الإسلامي  . يقول : " لا بل جاء الإسلام ليتولي تصحيح العقيدة في الله للبشر أجمعين ، و ينقذها من كل انحراف و كل اختلال ، و كل غلو ، و كل تفريط ، في تفكير البشر أجمعين .. فصحح – فيما صحح – اختلالات تصور التوحيد في آراء أرسطو في أثينا قبل الميلاد ، و أفلوطين في الإسكندرية بعد الميلاد ؛ و ما بينهما و ما تلاهما من شتي التصورات في شتي الفلسفات التي كانت تخبط في التيه ، معتمدة على ذبالة العقل البشري ، الذي لابد أن تعينه الرسالة ليهتدي في هذا التيه . " (57)

     وهذا ما أكد عليه في مؤلفه " خصائص التصور الإسلامي و مقوماته " حيث أشار إلي أن أرسطو و أفلوطين أخطئوا عندما حاولوا أن يبينوا كيفية تعلق الخالق بمخلوقاته ، و علل ذلك بأنهما قاسوا ذلك بما يعرفونه من كيفية تعلق عمل الإنسان بما يعمله ، و الله سبحانه و تعالي ليس كمثله شيء . " (58، 59)  نعم ، لقد أرسل الله سبحانه و تعالي رسوله صلي الله عليه و سلم برسالة الإسلام خاتمة لما قبلها من الرسالات لإخراج البشرية جمعاء من الظلمات إليالنور ، نور الإيمان الفطري السليم الذي يتفق مع العقل الصحيح ، إن الإسلام جاء لتصحيح كل ما سبقه من جهالات بشرية .

 

المطلب الثالث : استلهام الفلسفة الحديثة و المعاصرة للفلسفة اليونانية :

 ما حدث بعد ذلك أن الفلسفة الحديثة استلهمت الفلسفة اليونانية في توضيحها لمكانة الإنسان في هذا الكون ، وفي تحديد العلاقة بين الإنسان والله سبحانه وتعالي ، وكانت النتيجة مزيد من الجاهلية والركام والتيه . يقول : " بل إعلان أن الإنسان لم يعد في حاجة إلي " اله " كذلك لا حاجة إلى تصغير الله –سبحانه وتعالى- كلما أريد تعظيم الإنسان، وإعلان رفعة مقامه في هذه الأرض، وسيطرته وفاعليته. وكلما فتح الله للإنسان فتحاً في أسرار المادة. وكلما سخر له طاقة من طاقات الكون! . إن الله –سبحانه- والإنسان ليسا كفوين ولا ندين! ولا متصارعين! ولا يرجح أحدهما ليشيل الآخر! ولا يغلب أحدهما ليهزم الآخر! . لقد تركت الأساطير الإغريقية، والأساطير العبرية، هذا التصور القبيح التافه في أذهان الأوروبيين. فظل يسيطر على تصوراتهم، حتى بعد ما دخلوا في المسيحية! . الأسطورة الإغريقية التي تصور كبير الآلهة "زيوس" غاضباً على الإله "برومثيوس" لأنه سرق سر النار المقدسة (سر المعرفة) وأعطاه للإنسان، وراء ظهر كبير الآلهة. الذي لم يكن يريد للإنسان أن يعرف، لئلا يرتفع مقامه فيهبط مقام كبير الآلهة، ويهبط معه مقام "الآلهة"! ومن ثم أسلمه إلى أفظع انتقام وحشي رعيب! . والأسطورة العبرانية التي تصور الإله خائفاً من أن يأكل الإنسان من شجرة الحياة، - بعد ما أكل من شجرة المعرفة – فيصبح كواحد من الآلهة! ومن ثم يطرد الإنسان من الجنة، ويقيم دونه شجرة الحياة حراساً شداداً ولهيب سيف متقلب! . والأسطورة التي أطلقها "نيتشه" وهو يتخبط تخبط الصرع في كتابه: "هكذا قالزرادشت" ليعلن "موت الإله" ومولد الإنسان الأعلى (السوبرمان!) . "(60،61،62) و يرد الأستاذ سيد قطب يرحمه الله على كل هذه الجاهلية بقوله سبحانه و تعالي "  كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولونإلاكذباً" [ الكهف :4] و يعقب على ذلك بقول : " إن الإنسان – في الإسلام- يأخذ مكانه الحقيقي دائماً في هدوء، وفي هوادة، وفي طمأنينة .. إنه عبد الله. وإنه بهذه العبودية أكرم خلق الله. وهو في مقام العبودية في أرفع مقام. وفي أسعد مقام. وفي أصلح مقام. " (63)

     وهذا ما يعرفه جيدا المفكرون و العقلاء و الباحثون من أهل الغرب وخاصة المتخصصين منهم في الدراسات العربية و الإسلامية  ولكنهم – مع الأسف الشديد – يضللون شعوبهم . ودليل ذلك أن أي شخص منهم عندما يتعرف على الإسلام ينجذب إليه ويعتنقه عن اقتناع ومودة و محبة .

وفي مقابل كل هذه التصورات والركام والتيه يقف التصور الإسلامي للكون والإنسان شامخا قويا يثبت أنه التصور الرباني الموافق للفطرة السليمة . يقول : " بين هذه الشخصيات المتأرجحة، وبين هذا الغلو من هنا ومن هناك يقف التصور الإسلامي على قاعدة الحقيقة المستقرة الثابتة.. الله هو الخالقالمبدع المهيمنالمدبر .. والكون والإنسان من إبداع الله. وبينهما من التفاعل، وبينهما من التناسق، ما يجعل لكل منهما دوراً في حياة الآخر .. والإنسان هو الأكرم، وهو الأكثر فاعلية وإيجابية. وهو المسلط على المادة، يبدع فيها وينشئ، ويغيّر فيها ويطوّر، ويظهر من أسرارها ما أودعه الله، ويتلقى من هذه الأسرار ما يؤدي إلىالعظة والاعتبار. وتكريم الوجود الإنساني – مع عدم احتقار الوجود الكوني- يكفل لهذا الإنسان مقامه وكرامته، ويجعل حياته ومقوّماته أكرم من أن تمسّ في سبيل توفير أية قيمة مادية أخرى. وذلك مع عدم الإخلال بالقيم المادية وبالإبداع في عالم المادة. وهناك ألوان شتى من هذا التوازن في التصور الإسلامي، لا نملك تتبعها وعرضها هنا بالتفصيل – ولا حتى مجرد الإشارة – إنما نحن نثبت هذه النماذج، لتكون هي الإشارة التي يتبعها الناظر في هذا المنهج، إلى نهاية الطريق… " (64)

وهذا التصور الإسلامي للإنسان في الإسلام عكس ما نجده في التصور الغربي برمته كما وضحنا ذلك سابقا . ونلاحظ في هذا الشاهد – مرة أخرى – أن الأستاذ سيد قطب يرحمه الله يشير إليالهيمنة والتسلط و هذا أمر مستغرب منه يرحمه الله لأنه يتعارض مع تفسير السلف الصالح وأهل السنة والجماعة لهذه الصفات الإلهية .

ويعقب الأستاذ سيد قطب يرحمه الله على كل هذه التصورات العقلية المثالية عن " الله " بقوله : " وهكذا نجد في هذه التصورات، وهي أعلى ما وصل إليه الفكر البشري في تصور كمالالله وتنزيهه – إلها من "صنع" الفكر البشري! إلها لا وجود له في عالم الحقيقة والواقع! لأن صفاته وخصائصه منتزعة من فروض عقلية مجردة، لا من النظر في واقع الوجود، وما يوحى به من صفات الخالق لهذا الوجود. ولا من الوحي الذي يصف الله –سبحانه- كما هو في الحقيقة! . ومن ثم تشتط هذه التصورات في "مثالية" لا رصيد لها من الواقع. لأنها لم تؤخذ من الواقع. إنما أخذت من التجريد العقلي. والفروض العقلية. وتنتهي هذه المثاليةإلى نقص وعجز في تصور الكمالالإلهي – كما نرى من المقتبسات السابقة – في الوقت الذي تريد أن تبالغ في تقرير هذا الكمال. .. وحين تقاس هذه المحاولات إلىالتصور الإسلامي، يتبين معنى "الواقعية" التي نعنيها. فالحقيقة الإلهية في التصور الإسلامي، حقيقة فاعلة في هذا الوجود، وتلتمس خصائصها وصفاتها في آثارها الواقعية في هذا الوجود. وهذا ما يفصله القرآن الكريم وهو يصف الحقيقة الإلهية للناس، وهو يعرّفهم بربهم تعريفهاً يسيراً عميقاً واضحاً، وهو يستشهد بواقع الكون وواقع الناس، في منطق فطري واقعي جميل. " (65)

نستنج من ذلك أنه يرحمه الله يحدد مصادر التصور الإسلامي عن مفهوم الألوهية بأنه القرآن الكريم و نضيف إلي ذلك السنة النبوية المطهرة . ويشير كذلك إلي أن مصادر التصور الغربي عن مفهوم الألوهية فروض ذهنية مجردة لا صلة لها بالواقع . وهذا يؤكد علي أنه يوجد مسافة شاسعة بين التصور الإسلامي لمفهومالألوهية و التصور الغربي . ويؤكد أيضا على أنهما يسيران في خطين متوازيان لا يلتقيان . و إذا أرادا أن يلتقيا من الضروري أن يقدم أحدهما تنازلات عقدية أو فكرية . ولما كان التصور الإسلامي رباني و الهي من لدن الحكيم العليم فإنه لم و لن يقدم تنازلات عقدية بالمطلق ، و بالتالي يبقي أن يقدم الطرف الغربي هذه التنازلات و خاصة أنها من عمل بشري . 

ويقارن الأستاذ سيد قطب بين واقعية الإسلام في تصوره للإلوهية وما تركه الفلاسفة من تصورات فلسفية غير واقعية . يقول : "  بمثل هذه الواقعية يواجه التصور الإسلامي الكون.. فهو يتعامل مع هذا الكون الواقعي الممثل في أجرام وأبعاد. وأشكال وأوضاع، وحركات وآثار وقوى وطاقات. لا مع الكون الذي هو "فكرة" مجردة عن الشكل والقالب. أو الكون الذي هو "إرادة" ممثلة في شكل وقالب. ولا مع الكون الذي هو "هيولي" ومادة أولية غير مشكلة، أو الكون الذي هو "صورة" أو "مثال" في العقل المطلق! أو الكون الذي هو "الطبيعة" الخالقة! التي تطبع الحقائق في العقل البشري! ولا مع الكون الذي هو عدم أو شبيه بالعدم.. إلى آخر هذه الأسماء، التي ليس لها مدلول "واقعي" يتعامل معه "الإنسان". (66)

هذه المقارنة افتراضية خيالية لأنه لا يستقيم أن نقارن بين وحي إليه وعمل بشري وضعي . وبالرغم من ذلكإلاأن هذه المقارنة تؤكد على أن الإسلام وحي الهي أو أنه دين واقعي في حين الفلسفة مجرد تصورات خيالية لا صلة لها بالواقع .

ويعبر عن واقعية الإسلام في تصوره للكون . بقوله : " الكون هو هذا الخلق ذو الوجود الخارجيالذي يدركه الإنسان، ويوجه إليه قلبه وعقله في القرآن. هو هذه السماوات والأرض. هذه النجوم والكواكب.. هذه الكائنات الميتة والحية. والظواهر الكونية هي هذه الحياة وهذا الموت. وهذا الليل وهذا النهار. وهذا النور وهذا الظلام. وهذا المطر والبرق والرعد.. وهذا الظل وهذا الحرور. وهذه الأحوال والأطوار ذات الوجود الحقيقي، وذات الآثار الحقيقية. وحين يوجه الإسلام الإدراك الإنساني إلى هذا الكون .. كدليل على وجود خالقه ووحدانيته، وقدرته وإرادته، وهيمنته وتدبيره، وعلمه وتقديره… فإنه يوجهه إلى هذا الكون ذي الكينونة الواقعية، والآثار الواقعية .. ولا يوجهه إلى كون هو "فكرة" مضمرة، أو "إرادة" منفّذة، ولا يوجهه إلى كون هو صورة في عقل الإله، أو "هيولي" تعارض تلك الصورة، أو تشوهها عندما تتلبس بها! ولا يوجهه إلى كون هو من صنع العقل، أو إلى كون هو صانع العقل.. إلى آخر هذه التصورات البحتة التي تتعامل مع نفسها، ولا تتعامل مع الواقع الكوني إطلاقاً! . الكون في التصور الإسلامي هو هذه الخلائقالتي أبدعها الله، وقال لها: كوني فكانت، والتي نسقها الله بحيث لا تتعارض ولا تتصادم، والتي هي خاضعة لله، عابدة له، مسخرة لأمره، مؤدية لما أراده منها، ولما سخرها له، على أحسن وجه من الأداء:"الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور. ثم الذين كفروا بربهم يعدلون". [ الأنعام :1] . " (67)

لقد جاء الإسلام ليخلص البشرية من هذه الجاهلية اليونانية وغيرها من الجاهلية المشابهة لها في القديم و الحديث . يقول : " كلهذا من سمات الجاهلية الهابطة التي جاء الإسلام ليطهر المشاعر البشريةوالمجتمعاتالبشرية منها . وهي هي بعينها سمة كل جاهلية . . والذي يراجع أشعارامرئالقيس في جاهلية العرب يجد لها نظائر في إشعار الجاهلية الإغريقية والجاهليةالرومانية . . كما يجد لها نظائر في الآداب والفنون المعاصرة في جاهلية العربوالجاهلياتالأخرى المعاصرة أيضا ! كما أن الذي يراجع تقاليدالمجتمع , وتبذلالمرأة , ومجون العشاق , وفوضى الاختلاط في جميع الجاهليات قديمها وحديثها يجدبينهاكلها شبها ورابطة , ويجدها تنبع من تصورات واحدة , وتتخذ لها شعارات متقاربة ! . ومعأن هذا الانطلاق البهيمي ينتهي دائما بتدمير الحضارة وتدمير الأمة التي يشيعفيها - كما وقع في الحضارة الإغريقية , والحضارة الرومانية , والحضارة الفارسيةقديما - وكما يقع اليوم في الحضارة الأوروبية وفي الحضارة الأمريكية كذلك , وقدأخذتتتهاوى على الرغم من جميع مظاهر التقدم الساحق في الحضارة الصناعية . الأمرالذييفزع العقلاء هناك . وإن كانوا يشعرون - كما يبدو من أقوالهم - بأنهم أعجز منالوقوففي وجه التيار المدمر !"(68) 

نعم ، فالحضارة الغربية على الرغم مما وصل إليه الغربيون من تقدم ماديإلاأنهم يدركون ما وصلوا إلي من فقر روحي , وهذا يرجع إلي  أنهم استبدلوا الدين الإلهي بالعلم والعقل ، مما ترتب عليه أنه سيطر عليهم الفكر المادي تماما ، وأصبحوا يعبدون المادة بدلا من عبادة رب العباد الذي أرسل لهم الرسل و النبيين وخاتمهم محمد صلي الله عليه و سلم لخرجوهم من ظلمات الإلحادإلي نور الإيمان .

     ويعتبر التحرر الجنسي أحد الأسباب الأساسية التي عملت على انهيار كل هذه الحضارات بما فيها الحضارة اليونانية . يقول : "  لقدكانت فوضى العلاقات الجنسية هي المعول الأول الذي حطم الحضارات القديمة .حطمالحضارة الإغريقية وحطم الحضارة الرومانية وحطم الحضارة الفارسية . وهذه الفوضىذاتهاهي التي أخذت تحطم الحضارة الغربية الراهنة ; وقد ظهرت آثار التحطيم شبهكاملةفي انهيارات فرنسا التي سبقت في هذه الفوضى ;وبدأتهذه الآثارتظهرفي أمريكا والسويد وانجلترا , وغيرها من دول الحضارة الحديثة .وقدظهرت آثار هذه الفوضى في فرنسا مبكرة , مما جعلها تركع على أقدامها في كلحربخاضتها منذ سنة 1870 إلىاليوم , وهي في طريقها إلىالانهيار التام , كما تدلجميعالشواهد . وهذه بعض الأمارات التي أخذت تبدو واضحة من بعد الحرب العالميةالأولي. " (69)

إن هذا التحرر الجنسي أدي إلي كثير من الأزمات الأخلاقية والاجتماعية والحضارية كذلك في الغرب ، وهذا التحرر الجنسي لا يتناسب مطلقا مع فطرة الإنسان السليمة ، إنهم يتصارعون مع الفطرة الإنسانية السليمة ، وهذا الصراع غير متكافئ وغير حقيقي . وستكون نهايته هو انتهاء هذه الحضارة المادية الغربية التي دخلت في صراع مع الله سبحانه وتعالي .

      إن أصحاب هذه الحضارات حاولوا بكل ما أوتوا من فكر وفلسفة أن يهيمنوا بأفكارهم وفلسفتهم على كل العقول ، وكانت النتيجة أن انهارت تلك الحضارات ، فلم يكن لكلماتهم سلطان على عقول الناس وهذا هو ما نجده في الإسلام . يقول : " إنهليست المسالة أن يقال كلام ! فالكلام كثير . وقد يكتب فلان من الفلاسفة . أوفلانمن الشعراء . أو فلان من المفكرين . أو فلان من السلاطين ! قد يكتب كلامامنمقاجميلا يبدو أنه يؤلف منهجا , أو مذهبا , أو فلسفة . . الخ . . ولكن ضمائرالناستتلقاه , بلا سلطان . لأنه (ما أنزل الله بها من سلطان) [ يوسف: 40 ] ! فمصدر الكلمة هو الذييمنحهاالسلطان . . وذلك فوق ما في طبيعة المنهج البشري ذاته من ضعف ومن هوى ومنجهلومن قصور !. فمتىيدرك هذه الحقيقة البسيطة من يحاولون أن يضعوا لحياة الناس مناهج , غيرمنهجالعليم الخبير ? وأن يشرعوا للناس قواعد غير التي شرعها الحكيم البصير ? وأنيقيمواللناس معالم لم يقمها الخلاقالقدير ?. " (70)

     وهذا ما نجده بالفعل في الوحي المنزل من قبل رب العالمين فاطر هذا الكون الفسيخ وخالق الإنسان ، هذا الإنسان الذي عليه أن يدرك أن الله سبحانه وتعالي خلقه لعمارة هذا الكون ، وهذا ما يحقق المعني الحقيقي لخلافته علي الأرض .

     وبالنسبة لهؤلاء المفكرين الغربيين ومن يتابعهم من تغريبيين من بني جلدتنا الذين يريدون أن يفرضوا على البشر مناهج غير إلهية ، عليهم أن يدركوا أن من كان قبلهم حاول هذه المحاولات وأن هذه المحاولات فشلت بالفعل . و لذلك عليهم أن يعيدوا النظر في تفكيرهم مرة أخرى مثلما فعل بعضهم وكانت النتيجة أنهم اعتنقوا الإسلام وآمنوا بخاتم الأنبياء والمسلمين محمد صلي الله عليه وسلم بمحض إرادتهم و تفكيرهم دون أن يفرض عليهم أحد ذلك .

     ثم يشير الأستاذ سيد قطب يرحمه الله إلي أن الإسلام جاء ليحرر التوحيد والعقيدة من هذه المظاهر الشركية والوثنية التي ابتدعها الإنسان ، جاء الإسلام بالتوحيد الخالصالنقي الصافي من كل شوائب بني الإنسان . يقول : " ومنثم كانت عناية الإسلام الأولى موجهه إلى تحرير أمر العقيدة , وتحديد التصورالذييستقر عليه الضمير في أمر الله وصفاته , وعلاقته بالخلائق , وعلاقة الخلائق بهعلىوجه القطع واليقين .ومنثم كان التوحيد الكامل الخالصالمجرد الشامل , الذي لا تشوبه شائبة من قريبولامن بعيد . . هو قاعدة التصور التي جاء بها الإسلام , وظل يجلوها في الضمير ,ويتتبعفيه كل هاجسه وكل شائبة حول حقيقة التوحيد , حتى يخلصها من كل غبش . ويدعهامكينةراكزة لا يتطرق إليها وهم في صورة من الصور . . كذلك قالالإسلام كلمة الفصلبمثلهذا الوضوح في صفات الله وبخاصة ما يتعلق منها بالربوبية المطلقة . فقد كانمعظمالركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه الفلسفات والعقائد كما تخبط فيه الأوهاموالأساطير . . مما يتعلق بهذا الأمر الخطير , العظيم الأثر في الضمير الإنساني .وفيالسلوك البشري سواء ." (71)

     ويدل على ذلك أن الإسلام جاء ليخرج الناس من ظلمات الأساطير والخرافات التي ابتدعها البشر إلي نور العقيدة الصحيحة الموحي بها من رب العالمين . ولكنه العناد الإنساني من قبل بعض البشر الذين يبحثون عن منافع دنيوية ، هؤلاء البشر الذين يعتقدون أن الحياة الدنيا هي الحياة الحقيقة و ينكرون الوحي و الإلهي و البعث و النشر ، والذين ينكرون أن الدنيا مزرعة للحياة الآخرة .

المبحث الثاني : التصور الإسلامي  و الفلسفة :    

اعتمد الرعيل الأول من المسلمين القرآن الكريم و السنة الشريفة كينابيع يتكئون عليها في حياتهم  ، وكانت الينابيع صافية خالصة من أي شوائب ، لذلك لا تجد لهذا الجيل مثيل ، أما من أتوا بعدهم من الأجيال فقد خلطوا تفسير هذه الينابيع بكلام اليونان والرومان وغيرهم كثير . يقول : " كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن . القرآن وحده . فما كان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وهديهإلاأثرًا من آثار ذلك النبع . فعندما سُئلت عائشة رضي الله عنها - عن خُلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : " كان خُلقه القرآن". كان القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه ، ويتكيفون به ، ويتخرجون عليه ، ولم يكن ذلك كذلك لأنه لم يكن للبشرية يومها حضارة ، ولا ثقافة ، ولا علم ، ولا مؤلفات ، ولا دراسات .. كلا ! فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه ، أو على امتداده . وكانت هناك مخلفات الحضارة الإغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنها ، وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم . وكانت هناك حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك . وحضارات أخـري قاصية ودانية : حضارة الهند وحضارة الصين الخ . وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تحفان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها ، كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة.. فلم يكن إذن عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يقصر ذلك الجيـل على كتاب الله وحده .. في فترة تكونه .. وإنما كان ذلك عن " تصميم " مرسوم ، ونهج مقصود . يدل على هذا القصد غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى في يد عمر بن الخطاب - رضيالله عنه – صحيفـة مـن التوراة . وقوله : " إنه والله لو كان موسى حيًّا بين أظهركم ما حلَّ لهإلاأن يتبعني. " (72)

     وهذا يؤكد علي أن الدين الحق عند الله الإسلام ، ويؤكد أيضا أن كل الأنبياء إن كانوا عاصروه صلي الله عليه وسلم لكانوا اتبعوه صلي الله عليه وسلم . وهذا يتفق مع الفطرة الإنسانية النقية التي لا تشوبها أي شائبة من التلوث العقدي أو الفكري . ولكنه التلوث العقدي والعقلي الذي أصاب عقول بعض البشر فلم يعد في إمكانهم التمييز بين ما هو حق وما هو باطل .

ويستطردفي حديثه مؤكداأن الرسول صلي الله عليه وسلم كان يريد أن يصنع جيلا من المؤمنين الموحدين العالمين بكتاب الله و سنته صلي الله عليه وسلم ، براء من أي شوائب فكرية أو ثقافية تدخل عليهم من هنا أوهناك . و لكن ما لبث المسلمون بعد هذا الجيل أن خلطوا هذا النبع الرباني الخالص بشوائب أخري من فلسفات وأفكار غيرهم . فهذا " الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده . فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد .. ثم ما الذي حدث ، اختلطت الينابيع . ! صبت في النبع الذي استقت منه الأجيالالتالية فلسفة الإغريق ومنطقهم ، وأساطير الفرس وتصوراتهم ، وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى ، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات . واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم ، وعلم الكلام ، كما اختلط بالفقه والأصول أيضًا . وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل ، فلم يتكرر ذلك الجيل أبدًا . وما من شك أن اختلاط النبع الأول كان عاملاً أساسيًّا من عوامل ذلك الاختلاف البيِّن بين الأجيال كلها وذلك الجيل المميز الفريد . " (73)

مما لا شك أن هذا الجيل الأول الذي تابع رسول الله صلي الله عليه و سلم و جعل دستوره القرآن الكريم لم تشب عقيدته أية شائبة على الإطلاق . ولكن نقل كتب الفلسفة والمنطق اليونانيين بالإضافة إلي كتب الحضارات الأخرى أدي إلي انزلاق جماعة من المسلمين إلي هاوية الانحرافاتالعقدية والفكرية ، أولئك الذين لفقوا بين تفسيرهم للنصوص المنزلة وبين الفلسفات السابقة عليهم و خاصة الفلسفة اليونانية . ويبدو هذا الأمر واضحا في المواجهات التي دارت بين السلف الصالح و أهل السنة والجماعة وهؤلاء الذين اعتنقوا أفكار غريبة عن الإسلام .

المطلب الأول : طبيعة التصور الإسلامي :

     وبعد أن يؤكد على أن الفكر الإسلامي الأصيل هو وحده النابع من القرآن والسنة وهذا ما كان موجودا مع الرعيل الأول من المسلمين ، وأن ما أتي بعد ذلك من فكر لا يعبر عن الفكر الإسلامي الصحيح مطلقا بسبب ما شبه من أفكار وفلسفات لا تعبر عن الإسلام الصحيح . يؤكد علي أن ما نعيشه اليوم من جاهلية سببه البعد عن الينابيعالخالصةالقرآن الكريم والسنة الشريفة حتى ما يقال أنه فلسفة منتسبة للمسلمين مجرد جاهلية كذلك . يقول : " نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم . كل ما حولنا جاهلية .. تصورات الناس وعقائدهم ، عاداتهم وتقاليدهم ، موارد ثقافتهم ، فنونهم وآدابهم ، شرائعهم وقوانينهم . حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية ، ومراجع إسلامية ، وفلسفة إسلامية ، وتفكيرًا إسلاميًا .. هو كذلك من صنع هذه الجاهلية !! " (74)

أعتقد أن الأستاذ سيد قطب في هذا التعميم كان قاسيا جدا ، لأنه مازال يوجد بيننا من يعتمد النبع الصافي القرآن الكريم و السنة الشريفة هما مصدر العقيدة الصيحة . وكذلك يوجد بيننا من يبذل الغالي و النفيس في سبيل نصرة هذا الدين و نشره .

ولما جاء الإسلام لتحرير العباد من عبادة العباد ، لم يكن ذلك موقفا فلسفيا سلبيا ، وإنما كان موقف حركيا ، وواقعيا ، وإيجابيا . يقول : " إن هذا الإعلان العام لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان غير سلطان الله ، بإعلان إلوهيةالله وحده وربوبيته للعالمين ، لم يكن إعلاناً نظرياً فلسفياً سلبياً .. إنما كان إعلاناً حركياً واقعياً إيجابياً .. إعلاناً يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله ، ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلىالعبودية لله وحده بلا شريك .. ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل " الحركة " إلى جانب شكل " البيان " .. ذلك ليواجه " الواقع " البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه . " نستفيد من ذلك أنه يري الفلسفة بأفكارها و نظرياتها لا قيمة لها علي أرض الواقع في حين الإسلام دين واقعي يبحث عن خير الإنسان في الدنيا و الآخرة .(75)

     ويستطرد في ذلك موضحا أن الجهاد ضرورةة للدعوة ، إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلاناً جاداً يواجه الواقع الفعلي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه ، ولا يكفي بالبيان الفلسفي النظري .

     ويشير إلي أن الفلسفة من الفكر الجاهلي والإسلام بريء منها و من غيرها من الجاهليات الأخرى . يقول : " إن اتجاهات " الفلسفة " بجملتها ، واتجاهات " تفسير التاريخ الإنساني " بجملتها ، واتجاهات " علم النفس " بجملتها - عدا الملاحظات والمشاهدات دون التفسيرات العامة لها - ومباحث " الأخلاق " بجملتها ، واتجاهات دراسة " الأديان المقارنة " بجملتها ، واتجاهات " التفسيرات والمذاهب الاجتماعية " بجملتها - فيما عدا المشاهدات والإحصائيات والمعلومات المباشرة ، لا النتائج العامة المستخلصة منها ولا التوجيهات الكلية الناشئة عنها - .. إن هذه الاتجاهات كلها في الفكر الجاهلي - أي غير الإسلامي - قديماً وحديثاً ، متأثرة تأثراً مباشراً بتصورات اعتقاديه جاهلية ، وقائمة على هذه التصورات ، ومعظمها - إن لم يكن كلها - يتضمن في أصوله المنهجية عداءً ظاهراً أو خفياً للتصور الديني جملة ، وللتصور الإسلامي على وجه خاص !  " (76)

     وخاصة تلك الفلسفات التي تطرح تصورات فاسدة عن تصور الألوهية ، وكذلك  تلك الفلسفات التي أعلنت موت الإلهو بشرت بإلوهيةالإنسان . فهذه التصورات كلها تصورات جاهلية وتدخل الإنسان في تيه عميق لن يمكنه الخروج منهإلابعودة الإنسان إلي طريق الفطرة الصحيحة والإيمان القويم .

ويستمر في توضيح الفرق بين الفلسفة والإسلام مؤكدا أن الفلسفة ليست تراثا إنسانيا بل الأكثر من ذلك أن الفلسفة وسيلة من وسائل اليهودالتي يريدون من خلالها و من خلال غيرها أن يسيطروا علي العالم . يقول : " إن حكاية أن " الثقافة تراث إنساني " لا وطن له ولا جنس ولا دين .. هي حكاية صحيحة عندما تتعلق بالعلوم البحتة وتطبيقاتها العلمية - دون أن تجاوز هذه المنطقة إلىالتفسيرات الفلسفية " الميتافيزيقية " لنتائج هذه العلوم ، ولا إلىالتفسيرات الفلسفية لنفس الإنسان ونشاطه وتاريخه ، ولا إلىالفن والأدب والتعبيرات الشعورية جميعاً . ولكنها فيما وراء ذلك إحدى مصايد اليهودالعالمية ، التي يهمها تمييع الحواجز كلها - بما في ذلك ، بل في أول ذلك حواجز العقيدة والتصور - لكي ينفذ اليهودإلى جسم العالم كله ، وهو مسترخ مخدر ، يزاول اليهود فيه نشاطهم الشيطاني ، وفي أوله نشاطهم الربوي ، الذي ينتهي إلى جعل حصيلة كد البشرية كلها ، تؤول إلى أصحاب المؤسسات الماليةالربوية من اليهود ! " (77)

     والمقصود بالفلسفة هنا طبعا الفلسفة الحديثة التي أسست على الإلحادأمثالالفلسفات :الوجودية والبرجماتية ، والوضعية المنطقية والماركسية وغيرها من الفلسفات الإلحاديةالتي اعتنقها البعض من بني الإنسان .

     ويري أنه لا وجه للمقارنة بين الإسلام وهو وحي الهي وبين الفلسفة وغيرها من الجاهليات في تصور حقيقة الوجود . يقول : " وهو – يقصد الإسلام - الأعلى إدراكاً وتصوراً لحقيقة الوجود .. فالإيمان بالله الواحد في هذه الصورة التي جاء بها الإسلام هو أكمل صورة للمعرفة بالحقيقة الكبرى . وحين تقاس هذه الصورة إلى ذلك الركام من التصورات والعقائد والمذاهب ، سواء ما جاءت به الفلسفات الكبرى قديماً وحديثاً ، وما انتهت إليه العقائد الوثنية والكتابية المحرفة ، وما اعتفستهالمذاهب المادية الكالحة .. حين تقاس هذه الصورة المشرقة الواضحة الجميلة المتناسقة ، إلى ذلك الركام وهذه التعسفات ، تتجلى عظمة العقيدة الإسلامية كما لم تتجل قط . وما من شك أنالذين يعرفون هذه المعرفة هم الأعلون على كل من هناك  . " (78)

نستفيد من ذلك أن مقارنة الأستاذ سيد قطب يرحمه الله  في هذا الموضع وغيره من المواضع بين التصور الإسلامي وغيره من التصورات – بالطبع - مقارنة افتراضية وليست مقارنة حقيقية لأن الإسلام وحي الهي أما ما عداه من التصورات فكلها وضعية من صنع البشر .

     ونستفيد أيضا أن الإسلام ذلك الدين الرباني الموحي به من رب العالمين يصلح ليبين لنا ماهية الوجود أما الفلسفة و هي التي تعتمد على العقل فحسب فلا تصلح لمعرفة كنه هذا الوجود الذي نعيش فيه . يقول : " والذي يراجع سجل الفلسفة التي حاولت تفسير الوجود، وتفسير مكان الإنسان فيه، وتفسير غاية الوجود الإنساني، يقع على ركام عجيب. فيه من المضحكات الساذجة بقدر ما فيه  من السخف والافتعال. حتى ليعجب الإنسان.  كيف تصدر هذه التصورات عن "فيلسوف"!! لولا أن يتذكر أن هذا الفيلسوف إنسان؛ لا يملكإلاأداة العقل البشري. وأن هذا ليس مجالالعقل البشري. وأن هؤلاء الناس "الفلاسفة" ! هم الذين زجوا بأنفسهم في مجال لا منارة لهم فيه،إلاتلك الذبالة الموهوبة لهم من الله لشأن آخر غير هذا الشأن. ولمجال آخر غير هذا المجال. شأن تملك فيه أن تجدي ، ومجال تملك فيه أن تنير ذلك هو شأن الحياة الواقعية وذلك هو مجالالخلافة في الأرض وفق المنهج الإلهي . من التطلع إلى فضل الله وعونه، فيما يمده به من تفسير شامل للوجود، ولغاية الوجود الإنساني... وقوله الفصل وهو الحق... وقد تضمن منهجه ذلك التفسير بالقدر الذي يقوم عليه التصور الإنساني الصحيح.  وبالقدر الذي يقوم عليه كذلك نظام حياته على جذوره الطبيعية. " (79)

     وبذلك يكون للعقل دور في ترقية حياة الإنسان فيما يتناسب مع قدرة العقل الإنساني وإمكانياته . و لكن ما وقع أن المتفلسفة اعملوا العقل في مجال ليس مجاله البته . مما أدي إلي وقوع الإنسان في كثير من الانحرافات العقدية و الفكرية على نحو ما ذكرنا سابقا .

     وخلال تلك السنين استطاعت الحضارة الإسلامية " أن تقر في حياة البشرية تقاليد عملية، وأوضاعاً واقعية- تستند إلى تلك المبادئ والتصورات والقيم والموازين- لم تمت وتذهب بانقضاء تلك الفترة. ولكنها امتدت في صورة تيار متحرك، مندفع إلى مسافات بعيدة في الأرض، وإلى أحقاب متطاولة من الزمان. وتأثرت بها الحياة البشرية كلها - على صورة من الصور- وأصبحت رصيداً للبشرية كلها، تنفق منه وتستمد أكثر من ألف عام.. رصيداً يؤثر في تصوراتها، ويؤثر في أوضاعها، ويؤثر في تقاليدها، ويؤثر في علومها ومعارفها، ويؤثر في اقتصادها وعمرانها، ويؤثر في حضارتها كلها تأثيرات متفاوتة ، ولكنها مطردة فاعلة في كل ركن من أركان الأرض. وما تزال بقايا من ذلك التيار تعمل في واقع الحياة البشرية حتى اليوم، على الرغم من جميع القوى التي وقفت في وجه هذا المد الغامر، وعلى الرغم من النكسة أو النكسات إلىالجاهلية الإغريقية والجاهلية الرومانية، في العالم الغربي، الذي سيطر على مقاليدالأرض أحقاباً متطاولة!. " (80)

     ويبدو ذلك واضحا في كل تلك العقبات التي يضعها أهل الغرب أمام هذا الدين حتى لا ينتشر هذا المنهج الرباني في الغرب و في غير الغرب . ولذلك وجب علينا أن نقرر أن المستقبل لهذا الدين بالرغم من كل تلك العقبات التي يضعها أمام تدفقه أهل الغرب وغيرهم ، المستقبل لهذا التصور الرباني أمام كل تلك الأفكار والنظريات الوضعية التي يؤسس لها أهل الغرب طوال أكثر من ثلاثة وثلاثين عاما وثلاثمائة وألف . يقول : " الإسلام منهج. منهج حياة. حياة بشرية واقعية بكلمقوماتها. منهج يشمل التصور الاعتقادي الذي يفسر طبيعة (الوجود)، ويحدد ( مكانا للإنسان) في هذا الوجود، كما يحدد غاية وجوده الإنساني.. ويشمل النظم والتنظيماتالواقعية التي تنبثق من ذلك التصور الاعتقادى وتستند إليه، وتجعل له صورة واقعيةمتمثلة في حياة البشر. كالنظام الأخلاقي والينبوعالذي ينبثق منه، والأسس التي يقومعليها، والسلطة التي يستمد منها. والنظام السياسي وشكله وخصائصه. والنظام الاجتماعيوأسسه ومقوماته. والنظام الاقتصادي وفلسفته وتشكيلاته. والنظام الدولي وعلاقاتهوارتباطاته.. ونحن نعتقد أن المستقبل لهذا الدين، بهذا الاعتبار. باعتباره منهجحياة، يشتمل على تلك المقومات كلها مترابطة، غير منفصل بعضها عن بعض. المقوماتالمنظمة لشتى جوانب الحياة البشرية، الملبية لشتى حاجات (الإنسان) الحقيقية، المهيمنة على شتى أوجه النشاط الإنسانية." (81)

بالفعل الإسلام منهج حياة للإنسان عامة ، فالإنسان إذا تفاعل مع الإسلام على نحو ما ينبغي أن يكون يجد فيه كل ما يحتاج إليه لتسير حياته اليومية . والإسلام الذي يحض الإنسان علي أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا ويعمل لآخره كأنه يموت غدا . والعلاقة التفاعلية بذلك بين الإنسان و الإسلام ليست علاقة سيطرة ولا هيمنة بل هي علاقة تفاعل أساسها المودة و المحبة وتحقيق خير الإنسان في الدنيا و الآخرة .

      ويستطرد موضحا أن الإسلام منهج حياة شامل لكل حياة الإنسان في الدنيا و الآخرة ، ومن حاد عن ذلك المنهج و بحث عن منهج آخر غيره في كل هذه الجاهليات المتراكمة عبر تاريخ البشرية فلن يجديه ذلك نفعا . يقول : "  هذا الانبثاق ثم هذا التكيف وجه من وجوهالارتباط بين التصور الاعتقادي والنظام الاجتماعي.. يمكن تعميمه حتى يشمل لا مجردالنظام الاجتماعي، بل منهج الحياة كله، بما فيه مشاعر الأفرادوأخلاقهم وعباداتهموشعائرهم وتقاليدهم؛ وكل نشاط إنساني في هذه الأرض جميعاً. كما أن للمسالة كلهاوجهاً آخر.. إن كل (دين) هو منهج للحياة بما أنه تصور اعتقادي.. أو بتعبير أدق بماأنه يشمل التصور الاعتقادي وما ينبثق منه من نظام اجتماعي. بل من منهج يحكم كل نشاطالإنسان في هذه الحياة الدنيا. كذلك عكس هذه العبارة صحيح.. أن كل منهج للحياةهو (دين). فدين جماعة من البشر هو المنهج الذي يصرف حياة هذه الجماعة.. غير أنهإن كان المنهج الذي يصرف هذه الجماعة من صنع الله-أي منبثقاً من تصور اعتقاديرباني- فهذه الجماعة في (دين الله).. وإن كان المنهج الذي يصرف حياة هذه الجماعة منصنع الملك، أوالأمير أوالقبيلة أوالشعب-أي منبثقاً من مذهب أو تصور أو فلسفةبشرية- فهذه الجماعة في (دين الملك) أو(دين الأمير) أو(دين القبيلة) أو(دين الشعب .. وليست في (دين الله) لأنها لا تتبع منهج الله، المنبثق ابتداء من دين الله، دونسواه  !.والمحدثون من أصحاب المذاهب والنظريات والفلسفات الاجتماعية لم يعودوايحجمون، أو يتحرجون، من التصريح بهذه الحقيقة: وهي أنهم إنما يقررون(عقائد)؛ويريدون أخذ الناس بها في واقع الحياة؛ وأنهم يريدون إحلال هذه العقائد الاجتماعيةأوالوطنية أوالقومية محل العقيدة الدينية.." (82)

     ومن هذا المنطلق يمكننا القول أن الإسلام يكفي من يؤمن به أما ما عداه من مذاهب فكرية وضعية فهي لا تكفيه ، وليس ذلك فحسب بل أنها توقعه في الكثير من الشركيات و الجاهليات البشرية .

     ويؤكد لأهل الغرب على أن الإسلام أنفع لهم من النصرانية لأن الأخيرة عندما دخلت عليها الفلسفة انتشرت فيها كثيرا من التحريفات في الإنجيل ، فقد شاعت فيها نظرية الحلول الفلسفية اليونانية أما الإسلام و أقصد هنا القرآن الكريم فهو محفوظ من قبل رب العالمين لم تدخل عليه أي نظرية فلسفية على الإطلاق . يقول : "   ولقد كانمن نصيب (بولس) ( الذي لم ير المسيح -عليه السلام- وإنما دخل النصرانية من الوثنيةالرومانية) أن يتولى نشر النصرانية في أوروبا. مطعمة بما رسب في تصوراته من الوثنيةوالفلسفة الإغريقية.. وكانت هذه كارثة على النصرانية منذ أيامها الأولى في أوروبا.. فوق ما لحق بها من تحريف في فترة الاضطهاد الأولى. فترة تناقل الروايات في ظروف لاتسمح بتمحيصها ولا بتواترها !. وكتب بولس رسائله بعد ذلك-بعد القرن الأولالميلادي- وهي شاهد على امتزاج الأمثلة الدينية بصور الفلسفة-ولاسيما فلسفةالحلول- وكان يقول: أنالمسيح جالس على يمين الله، ويدعو لمن يطلب لهم الخير "أنتسكن فيهم كلمته" ويسال لهم الغفران منه، ويبشرهم بأنهم سيبلغون المجد متى عاد إلىالأرض! ويبدو من جملة كلامه أنه كان ينتظر معاده في زمن قريب. وكثيراً ما أشارإليه-صلوات الله عليه– باسم:"ربنا يسوع المسيح"! وسمى نفسه باسم:"رسول يسوع المسيحبحسب أمر الله مخلصنا وربنا يسوع المسيح. " (83 ، 84)

      ويشير الأستاذ سيد قطب يرحمه الله إلي أنه عندما يتحدث عن التصور الإسلامي للإنسان ، أنه لا يريد أن يؤسس لثقافة خيالية بل لثقافة واقعية ، لا يريد إنشاء مشروع فلسفي بل يريد تصورا إسلاميا ربانيا يحقق من خلاله الإنسان الغاية التي من أجلها خلق . يقول : "  على أننا نحب أن ننبه هنا إلى حقيقة أساسية كبيرة . .  إننا لا نبغي بالتماس حقائق التصور الإسلامي، مجرد المعرفة الثقافية. لا نبغي إنشاء فصل في المكتبة الإسلامية، يضاف إلى ما عرف من قبل باسم "الفلسفة الإسلامية". كلا! إننا لا نهدف إلى مجرد "المعرفة" الباردة، التي تتعامل مع الأذهان، وتحسب في رصيد "الثقافة"! إن هذا الهدف في اعتبارنا لا يستحق عناء الجهد فيه! إنه هدف تافه رخيص! إنما نحن نبتغي "الحركة" من وراء "المعرفة". نبتغي أن تستحيل هذه المعرفة قوة دافعة، لتحقيق مدلولها في عالم الواقع. نبتغي استجاشة ضمير "الإنسان" لتحقيق غاية وجوده الإنساني، كما يرسمها هذا التصور الرباني. نبتغي أن ترجع البشرية إلى ربها، وإلى منهجه الذي أراده لها، وإلى الحياة الكريمة الرفيعة التي تتفق مع الكرامة التي كتبها الله للإنسان، والتي تحققت في فترة من فترات التاريخ، على ضوء هذا التصور، عندما استحال واقعاً في الأرض، يتمثل في أمة، تقود البشرية إلىالخير والصلاح والنماء . " (85)

على هذا النحو ينكر الأستاذ سيد قطب يرحمه الله الفلسفة المنتسبة للمسلمين وغيرها من العقائد والأفكار التي أفسدت الفطرة الإنسانية السليمة ، ويدعونا للعض علىالإسلام  بالنواجذ ، الإسلامالذي يحقق الخير للإنسان في الدنيا و الآخرة .

المطلبالثاني : موقف المسلمين من جاهلية الفلسفة :

 يبين كيف وقع المسلمون في الجاهلية الفلسفية ، وذلك بسبب ترجمة تراث الأمم السابقة وخاصة كتب فلاسفة اليونانيينإلياللغة العربية مما أدي إلي ظهور انحرافات عقدية لم يعرفها المسلمون من قبل . يقول : "  ولقد وقع – في طور من أطوار التاريخ الإسلامي- أن احتكت الحياة الإسلامية الأصلية، المنبثقة من التصور الإسلامي الصحيح، بألوانالحياة الأخرى التي وجدها الإسلام في البلاد المفتوحة، وفيما وراءها كذلك. ثم بالثقافات السائدة في تلك البلاد. واشتغل الناس في الرقعة الإسلامية- وقد خلت حياتهم من هموم الجهاد، واستسلموا لموجات الرخاء .. وجدّت في الوقت ذاته في حياتهم من جراء الأحداث السياسية وغيرها مشكلات للتفكير والرأي والمذهبية- كان بعضها في وقت مبكر منذ الخلافالمشهور بين علي ومعاوية- اشتغل الناس بالفلسفة الإغريقية وبالمباحث اللاهوتية التي تجمعت حول المسيحية، والتي ترجمت إلىاللغة العربية .. ونشأ عن هذا الاشتغالالذي لا يخلو من طابع الترف العقلي في عهد العباسيين وفي الأندلس أيضاً، انحرافات واتجاهات غريبة على التصور الإسلامي الأصيل. التصور الذي جاء ابتداء لإنقاذ البشرية من مثل هذه الانحرافات، ومن مثل هذه الاتجاهات، وردها إلىالتصور الإسلامي الإيجابي الواقعي، الذي يدفع بالطاقة كلها إلى مجالالحياة، للبناء والتعمير، والارتفاع والتطهير. ويصون الطاقة أن تنفق في الثرثرة. كما يصون الإدراك البشري أن يطوح به في التيه بلا دليل. " (86)

يشير هنا الأستاذ سيد قطب يرحمه الله إلي بعض الأسباب التي أدت إلي نشوء الفرق المنتسبة للإسلام كالأسباب الاقتصادية و الاجتماعية و الفكرية . فالمال والترف والمكانة الاجتماعية جعلت بعض المسلمين يطلبون من نصارى السريان ترجمة كتب الفلسفة والمنطق اليونانيين . بالإضافة لترجمتهم من اللسان الهندي و الفارسي إلياللغة العربية . مما حدا ببعض الباحثين و الدارسين إليالقول أن البيئة العربية الإسلامية - في العهدين الأموي والعباسي – كانت بوتقة انصهرت فيها فلسفات اليونانيين و الهنود و الفرس .

     ولم يقف الأمر عند هذا الفريق الذي أخذ يقلد فلسفة اليونانيين بل أنه انبري فريق آخر من المسلمين راح يواجه هذه الانحرافات العقدية . يقول : " ووجد جماعة من علماء المسلمين أن لابد من مواجهة آثار هذا الاحتكاك، وهذا الانحراف، بردود وإيضاحات وجدل حول ذات الله–سبحانه– وصفاته. وحول القضاء والقدر. وحول عمل الإنسان وجزائه، وحول المعصية والتوبة.. إلى آخر المباحث التي ثار حولها الجدل في تاريخ الفكر الإسلامي! ووجدت الفرق المختلفة خوارج وشيعة ومرجئة. قدرية وجبرية. سنية ومعتزلة…. إلى آخر هذه الأسماء. " (87) 

نستنتج من ذلك أن الأستاذ سيد قطب يرحمه الله يعتبر أهل السنة والجماعة من ضمن الفرق المنتسبة للإسلام وهو يساويها بغيرها من الفرق عندما يدرجها ضمنهم ، وهذا لا نصيب له من الحقيقة ، فكل الفرق حادت في كثير من مسائل العقيدة عن الكتاب والسنة . أما أهل السنة والجماعة فقد التزموا بالقرآن الكريم والسنة الشريفة في كل مسائل الاعتقاد . وأشار كذلك إلي أن جماعة من المسلمين انبروا للتصدي لكل هذا الانحرافاتالعقدية والفكرية و الفلسفات الجاهلية لكنه لم يسم هذه الجماعة ولا أدري لماذا ؟ ! . وعموما فمن المتعارف عليه والثابت عند الجميع بما في ذلك المتعصبين من المستشرقين أن أهل السنة والجماعة هم اللذين بذلوا الغالي والثمين في سبيل مواجهة هذه الضلالات والمفاسد التي انتشرت في البيئة الإسلامية بفعل المتفلسفة المنتسبين للإسلام وأشباههم  . (88)

     ويستطرد موضحا أن هذا النفر من المقلدين لفلاسفة اليونانيين انبهروا بفلسفة أرسطو وبآراء فلاسفة اليونانيينالميتافيزيقية مما أدي إلي ظهور ما عرف بالفلسفة المنتسبة للمسلمين وعلم الكلام . يقول : " كذلك وجد بين المفكرين المسلمين من فتن بالفلسفة الإغريقية- وبخاصة شروح فلسفة أرسطو- أو المعلم الأول كما كانوا يسمونه- وبالمباحث اللاهوتية- "الميتافيزيقية" – وظنوا أن "الفكر الإسلامي" لا يستكمل مظاهر نضوجه واكتماله، أو مظاهر أبهته وعظمته،إلاإذا ارتدى هذا الزى - زىالتفلسف والفلسفة- وكانت له فيه مؤلفات! وكما يفتن من اليوم ناس بأزياء التفكير الغربية، فكذلك كانت فتنتهم بتلك الأزياء وقتها. فحاولوا إنشاء "فلسفة إسلامية" كالفلسفة الإغريقية. وحاولوا إنشاء "علم الكلام" على نسق المباحث اللاهوتية مبنية على منطق أرسطو! . " (89)

يتبن لنا بذلك أن انتقاد الأستاذ سيد قطب يرحمه الله للفلسفة المنتسبة للمسلمين كان امتدادا للنقد الذي قدمه للفلسفة اليونانية إذ هو يرحمه الله يري أن الفلسفة المنتسبة للمسلمين ليستإلاظلالا للفلسفة اليونانية . (90)

ويصرح الأستاذ سيد قطب يرحمه الله أنه كان ينبغي على الفلاسفة المنتسبين للإسلام والمتكلمين أن يؤسسوا للتصور الإسلامي من خلالالإسلام ذاته و لكنهم اقتبسوا من فلاسفة اليونانالقالب الفلسفي والمنطقي اليونانيين ، وراحوا يلفقوا بين الدين الإسلامي وفلسفة اليونانيين ومنطقهم مما أدي إلي تأسيسهم لتصور بعيد كل البعد عن التصور الإسلامي الرصين . يقول : "  وبدلاً من صياغة "التصور الإسلامي" في قالب ذاتي مستقل، وفق طبيعته الكلية، التي تخاطب الكينونة البشرية جملة، بكل مقوماتها وطاقاتها، ولا تخاطب "الفكر البشري" وحده خطاباً بارداً مصبوباً في قالب المنطق الذهني.. بدلاً من هذا فإنهم استعاروا "القالب" الفلسفي ليصبوا فيه "التصور الإسلامي"، كما استعاروا بعض التصورات الفلسفية ذاتها، وحاولوا أن يوفقوا بينها وبين التصور الإسلامي.. أما المصطلحات فقد كادت تكون كلها مستعارة! . " (91) وهذا ما صنعه المتفلسفة المنتسبين إليالإسلام و منهم على سبيل المثال لا الحصر الفارابي (260 – 339 هـ ) ، الذي لفق بين العقيدة الإسلامية و بين نظرية الصدور أو الفيض الأفلوطينيةالمحدثة على نحو ما ذكرنا آنفا . (92)

ونتيجة لهذا الخلط و التلفيق بين العقيدة الإسلامية وفلسفة اليونانيين أنتج هذا النفر من المسلمين المقلدين للفلسفة اليونانية مزيجا مشوها لا يرقي إلي مستوي التصور الإسلامي الخالص . يقول : " ولما كانت هناك جفوة أصيلة بين منهج الفلسفة  ومنهج العقيدة، وبين أسلوب الفلسفة وأسلوب العقيدة، وبين الحقائق الإيمانية الإسلامية وتلك المحاولات الصغيرة المضطربة المفتعلة التي تتضمنها الفلسفات والمباحث اللاهوتية البشرية.. فقد بدت "الفلسفة الإسلامية" –كما سميت- نشازاً كاملاً في لحن العقيدة المتناسق! ونشأ من هذه المحاولات تخليط كثير، شاب صفاء التصور الإسلامي، وصفر مساحته، وأصابه بالسطحية.ذلك مع التعقيد والجفاف والتخليط. مما جعل تلك "الفلسفة الإسلامية" ومعها مباحث علم الكلام غريبة غربة كاملة على الإسلام، وطبيعته، وحقيقته، ومنهجه، وأسلوبه! . " (93)

وهذا ما نبه عليه أهل السنة و الجماعة– على نحو ما ذكرنا سابقا – ولا أدري لماذا يغفل الأستاذ سيد قطب يرحمه الله موقف أهل السنة و الجماعة في مواجهة ضلالات الفلسفة ؟ ! .

وينبه إلي أن ذلك حدث بالفعل فيما ماضي حينما قام الفلاسفة المنسبين إليالإسلام بالتلفيق والخلط بين الإسلام والفلسفة اليونانية ، وهذا ما صنعه أيضا المتكلمون  . يقول : " ولقد وقع الفساد في التصور الإسلامي، ووقع التعقيد والتخليط، حينما شاء جماعة ممن عرفوا في التاريخ باسم "فلاسفة الإسلام" أن يستعيروا بعض التصورات الفلسفية الإغريقية، وبعض المصطلحات – وبخاصة من أرسطو وأفلوطين وبعض اللاهوتيين المسيحيين – ويدخلوها في جسم "التصور الإسلامي"! "... يقرأ الإنسان أمثال هذه المجموعات المنوعة الثلاثة، فيدرك منها سعة مفهوم "القدر" في التصور الإسلامي، مع بيان المجالالذي تعمل فيه المشيئة الإنسانية في حدود هذا القدر المحيط.لقد ضربت الفلسفات والعقائد المحرفة في التيه –في هذه القضية- ولم تعدإلابالحيرة والتخليط. بما في ذلك من خاضوا في هذه القضية من متكلمي المسلمين أنفسهم.. ذلك أنهم قلدوا منهج الفلسفة الإغريقية، أكثر مما تأثروا بالمنهج الإسلامي، في علاج هذه القضية. "(94)

ومن أمثلة ذلك أن الإمام أحمد بن حنبل يرحمه الله في " مشكلة خلق القرآن " عندما قرر أن القرآن الكريم ليس قديم و لا مخلوق بل هو منزل من عند رب العالمين على نحو ما ورد في النصوص الدينية . نجده استمسك بالنصوص الدينية في مقابل المعتزلة و المعطلة الذين قلدوا الفلاسفة اليونانيين و خاصة أرسطو حيث تمسكوا بالنظر العقلي الذي يزعم أن القرآن الكريم وهو كلام الله تعالي يجب أن يكون حادثا . ويبدو لنا من محنة الإمام أحمد بن حنبل يرحمه الله أن النص الديني هنا واجه العقل البشري الذي رجح العقل على النص مقابل الإمام أحمد بن حنبل يرحمه الله الذي رجح النص على العقل .

وبالنسبة لما اعتري آراء و أفكار المتكلمين من انحرافات فكرية جاهلية فهو يشير إلي أن ذلك يرجع إلي أكثر من سبب منها مخالطة المسلمين لليهود والنصارى بالإضافة إليالفلسفة اليونانية، فالفلسفة اليونانية تعد أحد الأسباب الرئيسة لهذا الجدل والخلافالكلامي . يقول : " ويكثرالمفسرون والمتكلمون هنا من الكلام عن خلق الأرض والسماء , يتحدثون عنالقبليةوالبعدية . ويتحدثون عن الاستواء والتسوية . . وينسون أن "قبل وبعد"اصطلاحانبشريان لا مدلول لهما بالقياس إلىالله تعالى ; وينسون أن الاستواءوالتسويةاصطلاحان لغويان يقربان الى التصور البشري المحدود صورة غير المحدود . .ولايزيدان . . وما كان الجدل الكلامي الذي ثار بين علماء المسلمين حول هذهالتعبيراتالقرآنية ,إلاآفة من آفات الفلسفة الإغريقية والمباحث اللاهوتية عنداليهودوالنصارى , عند مخالطتها للعقلية العربية الصافية , وللعقلية الإسلاميةالناصعة . . وما كان لنا نحن اليوم أن نقع في هذه الآفة , فنفسد جمالالعقيدة وجمالالقرآنبقضايا علم الكلام !! " (95)

وهذا نفس ما وقع فيه الأستاذ سيد قطب نفسه حيث فسر في ظلاله استواء الرحمن على العرش بأنه يعني القهر و السيطرة و الهيمنة مقلدا للجهمية و المعطلة و مخالفا لأهل السنة والجماعة . والأستاذ سيد قطب في ذلك إنما يخالف القواعد التي وضعها الأستاذ البنا نفسه لجماعة الإخوان المسلمين أنها جماعة سلفية سنية . (96)

     وينفي الأستاذ سيد قطب عن الإسلام نظرية من النظريات الفلسفية ، وهي نظرية وحدة الوجود الفلسفية اليونانيةالتي دخلت إليالإسلام من خلالالفلاسفة المنتسبين إليالإسلام والمتصوفة كذلك ، فهذه نظرية غريبة تماما عن النظرية الإسلامية في الخلق . يقول : " والنظريةالإسلامية : أن الخلق غير الخالق . وأن الخالق ليس كمثله شيء . . ومن هناتنتفيمن التصور الإسلامي فكرة : "وحدة الوجود" على ما يفهمه غير المسلم من هذاالاصطلاح -  أي بمعنى أن الوجود وخالقه وحدة واحدة - أو أن الوجود إشعاع ذاتي للخالقأو أن الوجود هو الصورة المرئية لموجده . . أو على أي نحو من أنحاء التصور علىهذاالأساس . . والوجود وحدة في نظر المسلم على معنى آخر : وحدة صدورهعن الإرادةالواحدةالخالقة , ووحدة ناموسه الذي يسير به , ووحدة تكوينه وتناسقه واتجاهه إلىربهفي عبادة وخشوع . " (97)

نعود فنكرر - مرة أخري - أن الأستاذ سيد قطب يرحمه الله يستخدم المصطلح الأفلوطينيالمحدث " صدر ، صدور " ليعبر به عن عملية الخلق من الوجهة الإسلامية وهذا أمر غير مقبول كما أشرنا إلي ذلك سابقا .

     ويشير إلي أنه سيوجد من يعترض على ما يقول  سواء من المشتغلين بالفلسفة المنتسبة للمسلمين التي يطلقون عليها " الفلسفة الإسلامية " أو من قبل المشتغلين بالفلسفة عامة . وينتهي إلي أنه من الضروري الرجوع إليالقرآن الكريم عندما نؤسس للتصور الإسلامي ولا تكون الفلسفة المنتسبة للمسلمين وعلم الكلام –المقلدين للفلسفة اليونانية - من العناصر المكونة لهذا التصور . يقول : " وأنا أعلم أن هذا الكلام سيقابل بالدهشة – على الأقل!- سواء من كثير من المشتغلين عندنا بما يسمى "الفلسفة الإسلامية" أو من المشتغلين بالمباحث الفلسفية بصفة عامة.. ولكني أقرره، وأنا على يقين جازم بأن "التصور الإسلامي" لن يخلص من التشويه والانحراف والمسخ،إلاحين نلقي عنه جملة بكل ما أطلق عليه اسم "الفلسفة الإسلامية". وبكل مباحث "علم الكلام" وبكل ما ثار من الجدل بين الفرق الإسلامية المختلفة في شتى العصور أيضاً! ثم نعود إلىالقرآن الكريم، نستمد منه مباشرة "مقومات التصور الإسلامي". مع بيان "خصائصه" التي تفرده من بين سائر التصورات. ولا بأس من بعض الموازنات- التي توضح هذه الخصائص – مع التصورات الأخرى- أما مقومات هذا التصور فيجب أن تستقى من القرآن مباشرة، وتصاغ صياغة مستقلة .. تماما . " (98)  وحتى نحقق - ما سبق و ذكرناه -  أعني أن نؤسس لتصور إسلامي خالص من شوائب الجهالة السابقة يجب أن نضع في الحسبان ثلاثة أمور و هي :

" الأولى: أن أول ما وصل إلىالعالم الإسلامي من مخلفات الفلسفة الإغريقية واللاهوت المسيحي، وكان له أثر في توجيه الجدل بين الفرق المختلفة وتلوينه، لم يكن سوى شروح متأخرة للفلسفة الإغريقية، منقولة نقلاً مشوهاً مضطرباً في لغة سقيمة. مما ينشأ عنه اضطراب كثير في نقل هذه الشروح! . " (99) و من يراجع حركة النقل و الترجمة من اللسان اليونانيإلياللسان العربي يجد كثيرا من المشكلات الخاصة بالترجمة و الخاصة بمسائل العقيدة في كل ما ترجم عن اليونان . كنسبة آراء لأرسطو لأفلوطين ، و تشوه كثيرا من الترجمات و غيرها من مشكلات حركة النقل و الترجمة في العهد الأموي و العهد العباسي . (100)

" الثانية: أن عملية التوفيق بين شروح الفلسفة الإغريقية والتصور الإسلامي كانت تنم عن سذاجة كبيرة، وجهل بطبيعة الفلسفة الإغريقية، وعناصرها الوثنية العميقة، وعدم استقامتها على نظام فكري واحد، وأساس منهجي واحد. مما يخالف النظرة الإسلامية ومنابعها الأصيلة.. فالفلسفة الإغريقية نشأت في وسط وثنى مشحون بالأساطير، واستمدت جذورها من هذه الوثنية ومن هذه الأساطير، ولم تخل من العناصر الوثنية الأسطورية قط. فمن السذاجة والعبث –كان- محاولة التوفيق بينها وبين التصور الإسلامي القائم على أساس "التوحيد" المطلق العميق التجريد.. ولكن المشتغلين بالفلسفة والجدل من المسلمين، فهموا –خطأ- تحت تأثير ما نقل إليهم من الشروح المتأخرة المتأثرة بالمسيحية أن "الحكماء" – وهم فلاسفة الإغريق- لا يمكن أن يكونوا وثنيين، ولا يمكن أن يحيدوا عن التوحيد! ومن ثم التزموا عملية توفيق متعسفة بين كلام "الحكماء" وبين العقيدة الإسلامية. ومن هذه المحاولة كان ما يسمى "الفلسفة الإسلامية"! . " (101)

نستنتج من ذلك أن ما تم هو عملية تلفيق وليس عملية توفيق بين العقيدة الإسلامية الوحي الرباني والفلسفة اليونانيةالتي وضعها جماعة من البشر . ومن أوضح الأمثلة على ذلك نظرية الفيض أو الصدور عند الفارابي كما أشرنا إلي ذلك سابقا . ولا أدري لماذا الأستاذ سيد قطب يرحمه الله مصرا على استخدام مصطلح " توفيق " كلما أثار هذه المسالة ولا يستخدم مصطلح " تلفيق " رغم أنه الأوقع والأدق و الأكثر موضوعية ، ولكننا ندرك أن عذر الأستاذ سيد قطب يرحمه الله الوحيد أنه لم يرجع إليالمصادر التي يجب الاعتماد عليها عند الكتابة عن فلاسفة اليونان والفلاسفة المنتسبين إليالإسلام وأشباههم . فمع الأسف الشديد لا يوجد في مؤلفات الأستاذ سيد قطب يرحمه الله نصا فلسفيا واحدا يمكن نسبته إلي فيلسوف يوناني أو فيلسوف من الفلاسفة المنتسبين للإسلام . وعلى العكس نجد ذلك عند أهل السنة والجماعة وفي مقدمتهم شيخ الإسلام ابن تيمية ( 661 – 728 هـ ) ، الذي ترك لنا دراسات علمية موضوعية ورصينة عن دراسة الفلسفة في ضوء العقيدة الإسلامية أو ما نطلق عليه موقف الإسلام من الفلسفة . فقد رجع شيخ الإسلام إلي نصوص الفلاسفة المنتسبين للإسلام من خلال مؤلفاتهم ، واستعان بهذه المؤلفات لمعرفة آراء فلاسفة اليونان ، ومن يراجع تراث شيخ الإسلام والمصادر الفلسفية للفلاسفة يجده يورد آراء الفلاسفة على نحو ما وردت في كتاباتهم . ولا أدري – مرة أخرى – لماذا لم يرجع الأستاذ سيد قطب يرحمه الله إلي انتقادات شيخ الإسلام ابن تيمية على الفلسفة اليونانية والفلسفة المنتسبة إليالمسلمين وعلم الكلام ؟ ! .

" الثالثة: أن المشكلات الواقعية في العالم الإسلامي – تلك التي أثارت ذلك الجدل منذ مقتل عثمان –رضي الله عنه- قد انحرفت بتأويلات النصوص القرآنية،  وبالإفهام و المفهومات انحرافاً شديداً. فلما بدأتالمباحث لتأييد وجهات النظر المختلفة، كانت تبحث عما يؤيدها من الفلسفات والمباحث اللاهوتية، بحثاً مغرضاً في الغالب ومن ثم لم تعد تلك المصادر- في ظل تلك الخلافات- تصلح أساساً للتفكير الإسلامي الخالص، الذي ينبغي أن يتلقى مقوماته ومفهوماته من النص القرآني الثابت، في جو خالص من عراقيل تلك الخلافات التاريخية. ومن ثم يحسن عزل ذلك التراث جملة! عن مفهومنا الأصيل للإسلام، ودراسته دراسة تاريخية بحتة، لبيان زوايا الانحراف فيه، وأسباب هذا الانحراف، وتجنب نظائرها فيما نصوغهاليوم من مفهوم التصور الإسلامي، ومن أوضاع وأشكال ومقومات النظام الإسلامي أيضاً.. " (102)

وعموما فقد نبه نفر من المسلمين إلي تلك الانحرافات العقدية و الفكرية التي وقع فيها المتفلسفة المنتسبين للإسلام و أشباههم و هم أهل السنة و الجماعة و في مقدمتهم إمامهم الإمام أحمد بن حنبل (164 – 241 هـ ) ، و يبدو ذلك بوضوح و جلاء  في محنته التي تعرض لها ، أقصد محنة خلق القرآن– على نحو ما ذكرنا سابقا - التي واجه فيها المعتزلة و الجهمية و المعطلة الذين تسلحوا بفلسفة و منطق اليونانيين في مقابل إمام أهل السنة و الجماعة الذي تسلح بالقرآن الكريم و السنة الشريفة .

ولقد سار على دربه في مواجهة الفلسفة و المنطق اليونانيين تلاميذه من بعده أمثال : شيخ الإسلام بن تيمية ، و ابن قيم الجوزية ( 691 – 751 هـ )  الذين بينوا ما يوجد في الفلسفة و المنطق اليونانيين من ضلالات و مفاسد و شركيات . و أعتقد أن هذا التراث الخاص بالسلف الصالح و أهل السنة و الجماعة ليس من التراث الذي ينادي الأستاذ سيد قطب يرحمه الله بأن نتجنبه و نحن نصوغ التصور الإسلامي اليوم رغم أنه لم يشر إلي هذا التراث على الإطلاق  و لو تلميحا . و لا أدري ، لماذا أغفله ؟ ! .

المطلب الثالث : التصور الإسلامي المعاصر و الفلسفة :

و يؤكد الأستاذ سيد قطب يرحمه الله علي أن التصور الإسلامي لا علاقة له على الإطلاق بالفلسفة و المنطق اليونانييناللذين أثرا على الفطرة الإسلامية فيما سبق تأثيرا سلبيا .

واليوم و الأستاذ سيد قطب يرحمه الله يؤسس للتصور الإسلامي يستبعد الفلسفة تماما حتى أنه يقرر أن استبعاد الفلسفة المنتسبة للمسلمين أو ما يطلق عليه " الفلسفة الإسلامية " لا ضير فيه علي الإطلاق . فعنده أننا عندما نفعل ذلك ننجو مما وقع فيه أهل الغرب من جهالة عندما أخذوا يؤسسوا لتصورهم الفكري . يقول : "  ولقد سارت مناهج الفكر الغربي في طريقها الخاص. مستمدة ابتداء من الفكر الإغريقي وما فيه من لوثة الوثنية، ثم مستمدة أخيراً من عدائها للكنيسة، وللتفكير الكنسي في الغالب!... ثم إننا لا نحاول استعارة "القالب الفلسفي" في عرض حقائق "التصور الإسلامي" اقتناعاً منا بأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين طبيعة "الموضوع" وطبيعة "القالب". وأن الموضوع يتأثر بالقالب. وقد تتغير طبيعته ويلحقها التشويه، إذا عرض في قالب، في طبيعته وفي تاريخه عداء وجفوة وغربة عن طبيعته! الأمر المتحقق في موضوع التصور الإسلامي والقالب الفلسفي. والذي يدركه من يتذوق حقيقة هذا التصور كما هي معروضة في النص القرآني !. نحن نخالف "إقبال" في محاولته صياغة التصور الإسلامي في قالب فلسفي، مستعار من القوالب المعروفة عند هيجل من "العقليين المثاليين" وعند أوجست كونت من "الوضعيين الحسيين". " (103) 

ويؤكد بذلك الأستاذ سيد قطب على ما نبهنا عليه سابقا أننا عندما نريد أن نتحدث عن الفلسفة يجب أن نستخدم مصطلحات الفلسفة وعندما نريد أن نتحدث عن العقيدة نستخدم مصطلحات العقيدة  . بعبارة أخرى كلل منهما قالبه الخاص به وعلينا أن نفعل ذلك وإلاتكون المفاسد والضلالات العقدية و الفكرية .

إن صياغة التصور الإسلامي النابع من العقيدة الإسلامية ينبغي أن يصاغ في قالب إسلامي ولا يصاغ في قالب فلسفي لأن ذلك يحرفه عن ما ترمي إليه العقيدة . يقول : " إن العقيدة –إطلاقاً- والعقيدة الإسلامية-بوجه خاص- تخاطب الكينونة الإنسانية بأسلوبها الخاص، وهو أسلوب يمتاز بالحيوية والإيقاع واللمسة المباشرة والإيحاء. الإيحاء بالحقائق الكبيرة، التي لا تتمثل كلها في العبارة. ولكن توحي بها العبارة. كما يمتاز بمخاطبة الكينونة الإنسانية بكل جوانبها وطاقاتها ومنافذ المعرفة فيها. ولا يخاطب "الفكر" وحده في الكائن البشري.. أما الفلسفة فلها أسلوب آخر. إذ هي تحاول أن تحصر الحقيقة في العبارة. ولما كان نوع الحقائق التي تتصدى لها يستحيل أن ينحصر في منطوق العبارة –فضلاً عن جوانب أساسية من هذه الحقائق هي بطبيعتها أكبر من المجالالذي يعمل فيه "الفكر" البشري–فإن الفلسفة تنتهي حتماً إلىالتعقيد والتخليط والجفاف، كلما حاولت أن تتناول مسائل العقيدة! . ومن ثم لم يكن للفلسفة دور يذكر في الحياة البشرية العامة، ولم تدفع بالبشرية إلىالأمام شيئاً مما دفعتها العقيدة، التي تقدمت البشرية على حدائها في تيه الزمن، وظلام الطريق.لابد أن تعرض العقيدة بأسلوب العقيدة، إذ أن محاولة عرضها بأسلوب الفلسفة يقتلها، ويطفئ إشعاعها وإيحاءها ، ويقصرها على جانب واحد من جوانب الكينونة الإنسانية الكثيرة.ومن هنا يبدو التعقيد والجفاف والنقص والانحراف في كل المباحث التي تحاول عرض العقيدة بهذا الأسلوب الغريب على طبيعتها، وفي هذا القالب الذي يضيق عنها.ولسنا حريصين على أن تكون هناك "فلسفة إسلامية"! لسنا حريصين على أن يوجد هذا الفصل في الفكر الإسلامي، ولا أن يوجد هذا القالب في قوالب الأداء الإسلامية! فهذا لا ينقص الإسلام شيئاً في نظرنا، ولا ينقص "الفكر الإسلامي". بل يدل دلالة قوية على أصالته ونقائه وتميزه! "(104)

نستفيد من ذلك أن ما يسمي بـ " الفلسفة الإسلامية " مرفوضة و مستبعدة تماما من الفكر الإسلامي الصحيح نظرا لما يوجد فيها من انحرافات و جاهلية يونانية . وأما أولئك الذين يروجون الآن لنظريات الفلسفة لتحل محل الوحي الإلهي ، فعليهم أن يعدوا خطوة للخلف ليشاهدوا ماذا حدث للسابقين جراء تقليد النظر الفلسفي ، و ينظروا كذلك لما يحدث للغرب منذ أعلنوا موت الإله ومنذ أن ولوا وجوههم شطر النظريات الفلسفية .

و هذا لا يعني عنده أن العقل الإنساني مستبعد من الفكر الإسلامي بل العقل له دوره الحقيقي في الفكر الإسلامي حيث يسلم بالوحي المنزل طالما النص صريح ، وعلى العقل كذلك ألاينحرف أو ينجرف وراء ما ليس في مجاله . يقول : " إن " العقل" ليس منفياً ولا مطروداً ولا مهملاً في مجالالتلقي عن الوحي، وفهم ما يتلقى وإدراك ما من شأنه أن يدركه، مع التسليم بما هو خارج عن مجاله. ولكنه كذلك ليس هو "الحكم" الأخير. وما دام النص مُحكماً، فالمدلول الصريح للنص من غير تأويل هو الحكم. وعلى العقل أن يتلقى مقرراته هو من مدلول هذا النص الصريح. ويقيم منهجه على أساسه (وفي صلب هذا البحث تفصيل واف للحد المأمون والمنهج الإسلامي المستقيم). " (105)

لذا نقول أن العقل الصريح لا يتعارض مع العقل الصحيح . وهذا ما أكد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله في كل مؤلفاته و خاصة مؤلفه " درء تعارض العقل و النقل " .

     و يستطرد الأستاذ سيد قطب يرحمه الله في نقده للفلسفة أنها لما حاولت أن تخرج العقل من نطاقه إلي نطاق آخر أوسع انتهت إلي تصورات بينها و بين التصور الإسلامي بون شاسع . يقول : "  ولقد ضربت الفلسفات في تيه لا منارة فيه , وهي تحاول كشف هذه الأسرار ;وتفترضفروضا تنبع من الإدراك البشري الذي لم يهيأ لهذا المجال , ولم يزود أصلابأدواتالمعرفة فيه والارتياد . فتجيء هذه الفروض مضحكة في أرفع مستوياتها . مضحكةإلىحد يحير الإنسان:كيف يصدر هذا عن "فيلسوف" ! وما ذلكإلالأن أصحاب هذهالفلسفاتحاولوا أن يخرجوا بالإدراك البشري عن طبيعة خلقته , وأن يتجاوزوا به نطاقهالمقدورله ! فلم ينتهوا إلى شيء يطمأن إليه ; بل لم يصلوا إلى شيء يمكن أن يحترمهمنيرى التصور الإسلامي ويعيش في ظله . " (106)

نستفيد من ذلك أن الأستاذ سيد قطب يرحمه الله  أشر إلي أن ما طرحه الفلاسفة ليسإلامجرد فروض ذهنية بصدد مسالة الألوهية ، و خلق الله تعالي للعالم ، وإذا كان الأمر كذلك ، فلماذا يستخدم الأستاذ سيد قطب لفظ الجلالة " الله " عندما يتحدث  - مثلا - عن المحرك الأول عند أرسطو ؟ ! ، حيث إن فكرة المحرك عند أرسطو فكره ذهنية افترضها أرسطو – على نحو ما صرح الأستاذ سيد قطب يرحمه الله - لا تتطابق مع لفظ الجلالة " الله " ؟ ! .

     لقد كانت البشرية تعيش قبل ظهور الإسلام في ظلمات الجهل و التيه ، ولم تجن البشرية من ركام الفلسفة وغيرها من الجهالات سوي التيه و التخبط . يقول : " جاء الإسلام، وفي العالم ركام هائل، من العقائد والتصورات، والفلسفات، والأساطير، والأفكار والأوهام، والشعائر والتقاليد، والأوضاع والأحوال.. يختلط فيها الحق بالباطل، والصحيح بالزائف، والدين بالخرافة، والفلسفة بالأسطورة.. والضمير البشري – تحت هذا الركام الهائل – يتخبط في ظلمات وظنون، لا يستقر منها على يقين. والحياة الإنسانية – بتأثير هذا الركام الهائل- تتخبط في فساد وانحلال، وفي ظلم وذل، وفي شقاء وتعاسة، لا تليق بالإنسان، بل لا تليق بقطيع من الحيوان! . " (107)

     ولقد جاء الإسلام ليخرج البشرية جمعاء من ظلمات هذا التيه و الركام إلي نور الوحي الإلهيالرباني .

و لا يدرك حقيقة هذا الأمرإلامن عاني تلك الضلالات و الشركيات ، ولذلك يجزم بأن رسالة الإسلام جاءت لتنقذ البشرية من الظلمات التي كانت تعيش فيها . يقول : " ولا يدرك الإنسان ضرورة هذه الرسالة، وضرورة هذا الانفكاك عن الضلالات التي كانت البشرية تائهة في ظلماتها، وضرورة الاستقرار على يقين واضح في أمر العقيدة .. حتى يطلع على ضخامة ذلك الركام ، وحتى يرتاد ذلك التيه ، من العقائد والتصورات ، والفلسفات والأساطير، والأفكار والأوهام ، والشعائر والتقاليد ، والأوضاع والأحوال ، التي جاء الإسلام فوجدها ترين على الضمير البشري في كل مكان ، وحتى يدرك حقيقة البلبلة والتخليط والتعقيد . التي كانت تتخبط فيها بقايا العقائد السماوية ، التي دخلها التحريف والتأويل ، والإضافات البشرية إلىالمصادر الإلهية ، والتي التبست بالفلسفات والوثنيات والأساطير سواء ! " (108)

و يستطرد في توضيح موقفه من الفلسفات اليونانية و غيرها بأن الإسلام جاء ليصحح ما فيها من انحرافات ويرد البشرية مرة أخرى إليالصواب بحسب رسالة الإسلام . يقول : " ولقد جاء الإسلام –وهذا ما يستحق الانتباه والتأمل- بما يعد تصحيحاً لجميع أنواع البلبلة، التي وقعت فيها الديانات المحرفة، والفلسفات الخابطة في الظلام. وما يعد رداً على جميع الانحرافات والأخطاء التي وقعت فيها تلك الديانات والفلسفات .. سواء ما كان منها قبل الإسلام وما جدّ بعده كذلك .. فكانت هذه الظاهرة العجيبة إحدى الدلائل على مصدر هذا الدين .. المصدر الذي يحيط بكل ما هجس في خاطر البشرية وكل ما يهجس، ثم يتناوله بالتصحيح والتنقيح! "(109)

وعلي هذا النحو يجب على كل البشر أن يدركوا قيمة هذا الدين العظيم الذين الذي نزل به أمين الوحي جبريل عليه السلام من قبل رب العالمين ، الذي أرسله رسوله محمد صلي الله عليه وسلم للناس أجمعين ليهديهم إلي طريق الله سبحانه و تعالي ، وهذا الطريق هو طريق الفلاح والنجاح في الدنيا و الآخرة .

ويستمر في بيان أن التصور الإسلامي الهي من لدن الرحمن الرحيم و لذلك سرعان ما ينفذ لقلوب وعقول البشر وليس من وضع بشر على غرار الفلسفة . يقول : " ثم يتميز التصور الإسلامي بعد ذلك عن التصور الاعتقادي –في عمومه- بأنه –كما أسلفنا- تصور رباني، صادر من الله للإنسان. وليس من صنع الإنسان. تتلقاه الكينونة الإنسانية بجملتها من بارئها. وليست الكينونة الإنسانية هي التي تنشئه، كما تنشئ التصور الوثني، أو التصور الفلسفي –على اختلاف ما بينهما- وعمل الإنسان فيه هو تلقيه وإدراكه والتكيف به، وتطبيق مقتضياته في الحياة البشرية. " (110)

ولذلك نجد كثيرا من الناس و خاصة العلماء في مجالالعلوم الطبيعة عندما يلتقي الإسلام في طريقه تجده يعتنقه بإرادة حرة دون أي ضغط من قبل أي إنسان . فالإسلام ينفد إلي قلبه مباشرة فيقبل عليه و يعتنقه رغم كل من يرتكبه أهل الغرب من تشويهات في حق هذا الدين العظيم .

ويستطرد في سرد خصائص التصور الإسلامي ليؤكد أنه تصور منهج حياة للبشرية جمعاء ، فهو موافق للفطرة الإنسانية النقية والخالصة من كل شوائب . يقول : "  وهذا التوكيد على مصدر هذا التصور، هو الذي يعطيه قيمته الأساسية، وقيمته الكبرى.. فهو وحده مناط الثقة في أنه التصور المبرأ من النقص، المبرأ من الجهل، المبرأ من الهوى .. هذه الخصائصالمصاحبة لكل عمل بشري، والتي نراها مجسمة في جميع التصورات التي صاغها البشر ابتداء من وثنيات وفلسفات. أو التي تدخل فيها البشر من العقائد السماوية السابقة! وهو كذلك مناط الضمان في أنه التصور الموافق للفطرة الإنسانية، الملبي لكل جوانبها، المحقق لكل حاجاتها. ومن ثم فهو التصور الذي يمكن أن ينبثق منه، ويقوم عليه، أقوم منهج للحياة وأشمله. " (111)

يشير الأستاذ سيد قطب هنا إلي أنه عندما يستبعد الفلسفة من مقومات التصور الإسلامي إنما يحافظ على ربانية هذا التصور حتى ينأي بهبعيدا عن أي تحريف أو انحراف مثلما حدث في النصرانية . يقول : " على أن أمر الذين حاولوا إنشاء تصورات اعتقادية من عند أنفسهم، أو إنشاء تصورات فلسفية لتفسير الوجود وارتباطاته كانوا أشد ضلالاً من هذا الذي صوره الأستاذ الندوي، وأكثر خطراً على حياة البشرية. أما الأخطر من هذا كله، فكان هو تحريف العقائد السماوية –وبخاصة النصرانية- وقيام كنيسة في أوربا تملك السلطان باسم هذه النصرانية المحرفة، وتفرض تصوراتها الباطلة بالقوة كما تفرض معلوماتها الخاطئة والناقصة عن الكون المادي، وتعارض بوحشية خط البحث العلمي في ميدانه الأصيل، بمقولات تعطيها طابع الدين. والدين منها برئ.. " (112)

     لقد حمي الإسلام  المسلمين من هذه الجاهلية اليونانية أو هذا الركام من الفلسفات الوثنية . يقول : " وعصم الإسلام أهله المؤمنين بحقيقته أنيضربوافي هذا التيه بلا دليل , وأن يحاولوا هذه المحاولة الفاشلة , الخاطئةالمنهجابتداء . فلما أن أراد بعض متفلسفتهم متأثرين بأصداء الفلسفة الإغريقية - على وجهخاص - أن يتطاولوا إلى ذلك المرتقي , باءوا بالتعقيد والتخليط , كما باء أساتذتهمالإغريق ! ودسوا في التفكير الإسلامي ما ليس من طبيعته , وفي التصور الإسلامي ماليسمن حقيقته . . وذلك هو المصير المحتوم لكل محاولة العقل البشري وراء مجاله ,وفوقطبيعة خلقته وتكوينه . ." (113)

نستنتج من ذلك أن الأستاذ سيد قطب يعيب على نفر من المسلمين الذين انبهروا بهذا التيه أنهم قلدوه وتابعوه و هم الفلاسفة المنتسبين إليالإسلام ، ولقد وقعوا في ما وقع فيه فلاسفة اليونانيين من جاهلية و تيه و ركام .

     والملاحظ أن الإنسان عندما ينظر إلي كل هذه الجاهلية بما فيها من أفكار و نظريات الفلاسفة على مر العصور ليندهش و يعجب من حالالإنسان الذي يصر على هذا الضلال و التيه وأمامه مباشرة هذا التصور الإسلامي الرصين . يقول : " وحينيطل الإنسان من قمة التصور الإسلامي والمنهج الإسلامي , على البشرية كلهافيجميع تصوراتها , وجميع مناهجها , وجميع نظمها - بما في ذلك تصورات أكبر فلاسفتهاقديماوحديثا , ومذاهب أكبر مفكريها قديما وحديثا - حين يطل الإنسان من تلك القمةالشامخةيدركه العجب من انشغال هذه البشرية بما هي فيه من عبث , ومن عنت ومن شقوة ,ومنضالة , ومن اضطراب لا يصنعه بنفسهعاقليدعي - فيما يدعي - أنه لم يعد في حاجةإلىاله ! أو لم يعد على الأقل - كما يزعم - في حاجة لإتباع شريعة اله ومنهج اله !. " (114)

     وهؤلاء القوم ختم الله على قلوبهم و بصيرتهم فلم يعودوا يرون الحق حقا و الباطل باطلا بل أنهم خلطوا بين الحق و الباطل ، وأخذوا يبحثون عن دنياهم و مصالحهم في هذه الحياة الدنيا فحسب .

إذا علينا كمسلمين أن يكون ديدننا في حياتنا بكل بمستوياتها وأركانها أن يكون نابعا من التصور الإسلامي  لا من أي تصور آخر وخاصة الفلسفة والمستشرقين وذيولهم الذين يعيشون بين ظهرانينا , ولا يعني ذلك أننا لا نستفيد منهم في العلوم العملية فلا ضير في ذلك طالما لا يخالف التصور الإسلامي للحياة . يقول : " هؤلاءهم أهل الكتاب . وهذا هو هدى رسول الله [ ص ] في التلقي عنهم في أي أمريختصبالعقيدة والتصور , أو بالشريعة والمنهج . . ولا ضير - وفق روح الإسلاموتوجيهه - من الانتفاع بجهود البشر كلهم في غير هذا من العلوم البحتة , علماوتطبيقا . . مع ربطها بالمنهج الإيماني:من ناحية الشعور بها , وكونها من تسخير اللهللإنسان . ومن ناحية توجيهها والانتفاع بها في خير البشرية , وتوفير الأمن لهاوالرخاء . وشكر الله على نعمة المعرفة ونعمة تسخير القوى والطاقات الكونية . شكرهبالعبادة , وشكره بتوجيه هذه المعرفة وهذا التسخير لخير البشرية . .فأماالتلقي عنهم في التصور الإيماني , وفي تفسير الوجود , وغاية الوجودالإنساني . وفي منهج الحياة وأنظمتها وشرائعها , وفي منهج الأخلاق والسلوك أيضا . .أماالتلقي في شيء من هذا كله , فهو الذي تغير وجه رسول الله [ ص ] لأيسر شيء منه .وهوالذي حذر الله الأمة المسلمة عاقبته . وهي الكفر الصراح . .هذاهو توجيه الله - سبحانه - وهذا هو هدى رسوله [ ص ] فأما نحن الذين نزعم أننامسلمون ،فأرانا نتلقى في صميم فهمنا لقرآننا وحديث نبينا [ ص ] عن المستشرقينوتلامذةالمستشرقين ! وأرانا نتلقى فلسفتنا وتصوراتنا للوجود والحياة من هؤلاءوهؤلاء , ومن الفلاسفة والمفكرين:الإغريق والرومان والأوروبيين والأمريكان ! وأرانانتلقىنظام حياتنا وشرائعنا وقوانيننا من تلك المصادر المدخولة ! وأرانا نتلقىقواعدسلوكنا وآدابنا وأخلاقنا من ذلك المستنقع الآسن , الذي انتهت إليه الحضارةالماديةالمجردة من روح الدين . . أي دين . . ثم نزعم - والله - أننا مسلمون ! وهوزعمإثمه أثقل من إثم الكفر الصريح . فنحن بهذا نشهد على الإسلام بالفشل والمسخ .حيثلا يشهد عليه هذه الشهادة الآثمة من لا يزعمون - مثلنا - أنهم مسلمون !.. إنالإسلام منهج . وهو نهج ذو خصائص متميزة:من ناحية التصور الاعتقادي , ومنناحيةالشريعة المنظمة لارتباطات الحياة كلها . ومن ناحية القواعد الأخلاقية , التيتقومعليها هذه الارتباطات , ولا تفارقها , سواء كانت سياسية أو اقتصادية أواجتماعية . وهو منهج جاء لقيادة البشرية كلها . فلا بد أن تكون هناك جماعة من الناستحملهذا المنهج لتقود به البشرية . ومما يتناقض مع طبيعة القيادة - كما أسلفنا -أنتتلقى هذه الجماعة التوجيهات من غير منهجها الذاتي . ." (115)

إن الأستاذ سيد قطب يرحمه الله هنا يرفض التغريب بكل ما تعنيه كلمة الرفض من معني . ويؤكد على التمسك بالتصور الإسلامي كمنهج حياة للإنسان المسلم في كل ما يقول ويعمل .

      والذين يزعمون أن الفلسفة أو العلم يغني الإنسان عن الدين ، فهذا حديث غير واقعي فالواقع يؤكد أن العقل والعلم إذا ابتعدوا عن الدين ضلوا وأضلوا . : " والذين يزعمون أن الفلسفة تغني العقل عن الدين ; أو أن العلم - وهو من منتجاتالعقل - يغني البشرية عن هدى الله ; إنما يقولون قولا لا سند له من الحقيقة ولا منالواقعكذلك . . فالواقع يشهد أن الحياة البشرية التي قامت أنظمتها على المذاهبالفلسفيةأو على العلم , هي أبأس حياة يشقى فيها "الإنسان" مهما فتحت عليه أبواب كلشيء ; ومهما تضاعف الإنتاج والإيراد ; ومهما تيسرت أسباب الحياة ووسائل الراحة فيهاعلىأوسع نطاق . . وليس مقابل هذا أن تقوم الحياة على الجهل والتلقائية ! فالذينيضعونالمسالة هكذا مغرضون ! فإن الإسلام منهج حياة يكفل للعقل البشري الضماناتالتيتقيه عيوب تركيبه الذاتي , وعيوب الضغوط التي تقع عليه من الأهواء والشهواتوالنزعات . ثم يقيم له الأسس , ويضع له القواعد , التي تكفل استقامته في انطلاقهللعلموالمعرفة والتجربة ; كما تكفل له استقامة الحياة الواقعية التي يعيش في ظلها - وفق شريعة الله - فلا يضغط عليه الواقع لينحرف بتصوراته ومناهجه كذلك !. " (116)

     ويستطرد الأستاذ سيد قطب في تأكيده علي ضرورة اهتداء العقل بالدين . يقول : " وهذهحقيقة أخرى تحشد كمؤثر آخر . . فالله الذي يؤمرون بالاستسلام له هو الذيخلقالسماوات والأرض - والذي يخلق و يملك ويحكم ويقضي ويتصرف - ولقد خلق السماواتوالأرض(بالحق) [ سورة الأنعام : 73 ] . فالحق قوام هذا الخلق . . وفضلا عما يقرره هذا النص من نفي الأوهامالتيعرفتها الفلسفة عن هذا الكون - وبخاصة الأفلاطونية والمثالية - من أن هذاالعالمالمحسوس وهم لا وجود له على الحقيقة ! - فضلا على تصحيح مثل هذه التصورات ,فإنالنص يوحي بأن الحق أصيل في بنية هذا الكون , وفي مالأته كذلك . فالحق الذييلوذبه الناس يستند إلىالحق الكامن في فطرة الوجود وطبيعته , فيؤلف قوة هائلة ,لايقف لها الباطل , الذي لا جذور له في بنية الكون , وإنما هو كشجرة خبيثة اجتثتمنفوق الأرض ما لها من قرار . وكالزبد يذهب جفاء , إذ لا أصالة له في بناء الكون . . كالحق . . وهذه حقيقة ضخمة , ومؤثر كذلك عميق . ." (117)

إن طرح الفلسفة من هذا المنطلق وهم وخداع للبصر و البصيرة ، إنه يوقع الإنسان في التيه و الحيرة . أما التصور الإسلامي فينجي الإنسان من جهالة الفلسفة و تيهها .

     إن التصور الإسلامي عن الوجود لا يقدم جدلا ولا فلسفة للفطرة الإنسانية بل يقدم لها تفسيرا واقعيا للوجود . يقول : " إنهلا يقدم للفطرة جدلا لاهوتيا ذهنيا نظريا . ولا يقدم لها جدلا كلاميا [ كعلمالتوحيد]الغريب على المنهج الإسلامي . ولا يقدم لها فلسفة عقلية أو حسية , إنمايقدملها هذا الوجود الواقعي - بعالميه عالم الغيب وعالم الشهادة - ويدعها تتفاعلمعهوتتجاوب , وتتلقى عنه وتستجيب , ولكن في ظل منهج ضابط لا يدعها - وهي تتلقى منالوجود - تضل في المتاهات والدروب ." (118) وبذلك يجب على كل من يتعاط مع الفلسفة أن  يكون لديه عقيدة إيمانية قوية تقيه شرورها و ضلالاتها .

     ويؤكد على ذلك – كعادته – بقوله : " وقداقتضى هذا الأمر- يقصد نقل البشرية من عهد الخوارقالحسية إلي توجيه الإدراك البشري لملاحظة بدائع الصنعةالإلهية في الوجود كله -  تربية طويلة , وتوجيها طويلا , حتى يألفالإدراك البشري هذااللونمن النقلة , وهذا المدى من الرقي ; وحتى يتجه الإنسان إلى قراءة سفر الوجودبإدراكهالبشري , في ظل التوجيه الرباني , والضبط القرآني , والتربية النبوية . .قراءةهذا السفر قراءة غيبية واقعية إيجابية في آن واحد , بعيدة عن منهج التصوراتالذهنيةالتجريدية التي كانت سائدة في قسم من الفلسفة الإغريقية واللاهوت المسيحي ,وعنمنهج التصورات الحسية المادية التي كانت سائدة في قسم من تلك الفلسفة وفي بعضالفلسفةالهندية والمصرية والبوذية والمجوسية كذلك , مع الخروج من الحسية الساذجةالتيكانت سائدة في العقائد الجاهلية العربية !" (119)

     إن التصورات التي أطلقها الفلاسفة على مر العصور بما فيهم فلاسفة اليونان عن الوجود فاسدة تماما وعارية عن الواقعية التي نجدها في التصور الإسلامي . يقول : " فرقة ظلت تجاهد بعقولها المحدودة لإدراك غير المحدود من ذاته تعالى , والمعرفة الحقيقية المغيبة عن غير طريق الكتب المنزلة . وكان منهم فلاسفة حاولوا تفسير هذا الوجود وارتباطاته , فظلوا يتعثرون كالأطفالالذين يصعدون جبلا شاهقا لا غاية لقمته , أو يحاولون حل لغز الوجود وهم لم يتقنوا بعد أبجدية الهجاء ! وكانت لهم تصورات مضحكة - وهم كبار فلاسفة - مضحكة حقا حين يقرنها الإنسان إلىالتصور الواضح المستقيم الجميل الذي ينشئه القرآن . مضحكة بعثراتها . ومضحكة بمفارقاتها . ومضحكة بتخلخلها . ومضحكة بقزامتها بالقياس الى عظمة الوجود الذي يفسرونه بها . . لا أستثني من هذا فلاسفة الإغريق الكبار , ولا فلاسفة المسلمين الذين قلدوهم في منهج التفكير . ولا فلاسفة العصر الحديث ! وذلك حين يقاس تصورهم الى التصور الإسلامي للوجود . فهذه فرقة . فأما الفرقة الأخرى , فقد يئست من جدوى هذا الاتجاه في المعرفة . فعدلت عنه إلى حصر نفسها وجهدها في العلم التجريبي والتطبيقي . ضاربة صفحا عن المجهول , الذي ليس إليه من سبيل وغير مهتدية فيه بهدى الله . لأنها لا تستطيع أن تدرك الله ! وهذه الفرقة كانت في أوج غلوائها خلالالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر . ولكنها أخذت منذ مطلع هذا القرن تفيق من الغرور العلمي الجامح , على هروب المادة من بين أيديها وتحولها إلى إشعاع "مجهول الكنه" ويكاد يكون مجهول القانون ! . وبقي الإسلام ثابتا على صخرة اليقين . يمنح البشر من المجهول القدر الذي لهم فيه خير . ويوفر طاقتهم العقلية للعمل في خلافة الأرض . ويهيئ لعقولهم المجالالذي تعمل فيه في أمن . ويهديهم للتي هي أقوم في المجهول وغير المجهول ! . " (120)

      ومن هذا المنطلق تصبح الفلسفة هي سبب بلاء البشرية على مر العصور ، هي سبب انحرافها عن الفطرة الإنسانية في تصورها لمبحثي الوجود والألوهية  . يقول : " ومنثم تصبح أسئلة كهذه:كيف خلق الله السماوات والأرض ? كيف استوي على العرش ?كيفهذا العرش الذي استوي عليه الله سبحانه ?! . . . تصبح هذه الأسئلة وأمثالهالغوايخالف توجيهها قاعدة الاعتقاد الإسلامي .أما الإجابة عليها فهي اللغو الأشدالذيلا يزاوله من يدرك تلك القاعدة ابتداء !ولقد خاضت الطوائف - مع الأسف - فيهذهالمسائل خوضاً شديداً في تاريخ الفكر الإسلامي , بالعدوى الوافدة على هذا الفكرمنالفلسفة الإغريقية !"(121).

     ويستطرد مؤكدا على نفس المعني بقوله : " والقرآنالكريم لا يدخل في جدل ذهني جاف بصدد قضية الألوهية والربوبية - كالذيجدفيما بعد بتأثير المنطق اليوناني والفلسفة الإغريقية - إنما يلمس المنطق الفطريالواضحالبسيط المباشر . " (122)

إذا الإسلام لم يكن يواجه مع عرب الجاهلية وفلاسفة اليونان إنكارا لوجود الله كما نراه اليوم بل إن هذه المجموعات البشرية كانت تؤمن بوجود الله باستثناء قلة منها و لكن تصورها للإلوهية كان مخالف للتصور الإسلامي . يقول : " ولميكن العرب - في جاهليتهم - ينكرون أن الله هو خالق هذا الكون , وخالق الناس , ورازقهم كذلك من ملكه , الذي ليس وراءه ملك تقتات منه العباد ! . . وكذلك لم تكنالجاهلياتالأخرى تنكر هذه الحقائق - على قلة من الفلاسفة الماديين من الإغريق ! -ولمتكن هنالك هذه المذاهب المادية التي تنتشر اليوم بشكل أوسع مما عرف أيامالإغريق . . لذلك لم يكن الإسلام يواجه في الجاهلية العربيةإلاالانحراف في التوجهبالشعائرالتعبدية لإلهه - مع الله - على سبيل الزلفى والقربى من الله ! - وإلاالانحراففي تلقي الشرائع والتقاليدالتي تحكم حياة الناس . . أي أنه لم يكن يواجهالإلحادفي وجود الله - سبحانه - كما يقول اليوم "ناس" ! أو كما يتبجحون بغير علمولاهدى ولا كتاب منير !. والحقأن هؤلاء الذين يجادلون في وجود الله اليوم قلة . وسيظلون قلة . إنماالانحرافالأساسي هو ذاته الذي كان في الجاهلية . وهو تلقي الشرائع في شؤون الحياةمنغير الله . . وهذا هو الشرك التقليدي الأساسي الذي قامت عليه الجاهلية العربية ,وكلالجاهليات أيضا !. " (123)

ويشير الأستاذ سيد قطبإليالتصور الإسلامي الصحيح الذي يجب أن يقتدي به الإنسان المسلم . يقول : " والآن ننتقل من هذا الركام المتناثر إلىالتصور الإسلامي المستقيم الواضح المريح: إن الإنسان – في التصور الإسلامي- يتعامل مع اله موجود. خالق. مريد. مدبر. مهيمن. قادر. فعال لما يريد.. كامل الإيجابية والفاعلية.. إليه يرجع الأمر كله. والى إرادته يرجع خلق هذا الكون ابتداء، وكل انبثاقه فيه بعد ذلك، وكل حركة. وكل تغير وكل تطور. ولا يتم في هذا الكون شيءإلابإرادته وعلمه وتقديره وتدبيره. وهو –سبحانه- مباشر بإرادته وعلمه وتدبيره لكل عبد من عباده، في كل حال من أحواله ولكل حي ولكل شيء وفي هذا الوجود كذلك. ... ويحفل القرآن الكريم بتقرير هذه الحقيقة الأساسية الكبيرة في التصور الإسلامي، بكل صورها وأشكالها، ويهتم بعرض مظاهرها في كل جانب من جوانب الكون، وفي كل صورة من صورها المتجددة التي لا تحصى ... " (124)

ويبين ذلك في القرآن الكريم حيث يأتي بالعديد من الآيات القرآنية التي توضح ذلك منها على سبيل المثال لا الحصر : "إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوي على العرش، يُغشى الليل النهار يطلبه حثيثاً، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره،إلاله الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين" [ الأعراف: 54] ، "وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض، إنه كان عليماً قديراً" [ فاطر: 44] ، "قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير. تولج الليل في النهار، وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت، وتخرج الميت من الحي، وترزق من تشاء بغير حساب"[ آل عمران : 26، 27 ]

وأخيرا و ليس آخرا يميز الأستاذ سيد قطب بين التصور الإسلامي وغيره من التصورات الفاسدة و يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن التصور الإسلامي هو التصور الفطري و الصحيح و المناسب للإنسان . يقول : " واستقرار هذه الحقيقة في ضمير الإنسان وفي حياته، يتوقف عليه كل شيء في أمر العقيدة. كما أنه هو الذي يمد الحياة البشرية بكافة المشاعر الأخلاقية. بواعثها وموازينها، والسلطان القائم عليها ... إن هذه الإيجابية في علاقة الله –سبحانه- بخلائقه كلها، هي مفرق الطريق بين العقيدة الجدية المؤثرة، والعقيدة الصورية السلبية. وشمول هذه الإيجابية وتوحدها، هو مفرق الطريق كذلك، بين التجمع في الكينونة الإنسانية والنشاط الإنساني، والتمزق في هذه الكينونة ونشاطها الحيوي. ... وتصور الإنسان لإلهه، وتعلق صفاته بالحياة الإنسانية، هو الذي يحدد قيمة هذا الإله في نفسه، كما يحدد نوع استجابته لهذا الإله! ... وفرق كبير بين الإنسان الذي يتصور أن إلهه لا يحفل به، ولا يحس بوجوده – أو لا يعلم بوجوده أصلاً كما يقول بعض الفلاسفة! – والإنسان الذي يحس ويعلم أن الله هو خالقه ورازقه، ومالك أمره كله في الدنيا والآخرة... وفرق كذلك بين الذي يتعامل مع الهين متنازعين – كما يقول الفرس- أو مع إلهة متفرقة كما تقول الوثنيات الأخرى، والذي يتعامل مع اله واحد. له إرادة واحدة، ومنهج واحد. يعلم عباده على وجه الضبط والتحديد ما يريده منهم فيرضى، وما يكرهه منهم فيسخط! . " (125) . وبقول كلي فإن الدين الحق عند الله الإسلام و ما عداه فباطل و لن يقبل منه .

تعقيب :

1 – رفض أن تكون العقلية المصرية عقلية غربية تماما ، من منطلق رفضه تغريب العقلية المصرية ، ولا يعني ذلك رفض كل ما يأتي من الغرب بل نأخذ من الغرب ما يتفق مع العقيدة الإسلامية فحسب كالعلوم الطبيعية أما أمور العقيدة فلا نأخذهاإلامن النبع الصافي القرآن الكريم و السنة النبوية المطهرة .

2 – ما ورد من توحيد في الأديان الوضعية والأديان السماوية المحرفة رفضه نظرا لما يوجد فيه من وثنية وشرك أخرجه من دائرة التوحيد الرباني الخالص والموافق للفطرة الإنسانية . مع العلم أن المسئول عن تحريف الكتب السماوية هم أتباع هذه الكتب السماوية .

3 – بالنسبة للفلسفة اليونانية فإن فلاسفة اليونانيينأضفوا على مفهوم و صفات الإله مما هو بريء منه مفهوم التوحيد الفطري ، ونظرا لما يوجد في نظرياتهم الفلسفية من مفاسد و ضلالات و شركيات وجاهلية فهي مرفوضة في ضوء التوحيد الإلهيالرباني الإسلامي الفطري .

4 – إن التصور الإسلامي للكون و الحياة والإنسان هو التصور الفطري السليم الموافق للعقل الصحيح ، وهو التصور الواقعي الذي يتعاط مع واقعية الإنسان ، وهو التصور الذي لم يتلوث بالوثنية والجاهلية والتيه الكائن في العالم الغربي قديما و حديثا ، ولذلك هو التصور الموافق للإنسان في كل زمان ومكان .

5 – لم يرجع إلي كتاب واحد في الفلسفة اليونانية أو الفلسفة المنتسبة للمسلمين ، ولم يستفد من نصوص نظريات هؤلاء الفلاسفة على الإطلاق على عكس السلف الصالح وأهل السنة والجماعة الذين تركوا لنا دراسات علمية رصينة وموضوعية في موقفهم الرافض للفلسفة اليونانية وعلم الكلام والفلسفة المنتسبة للمسلمين .

6 – لم يرد ذكر اسم علم من أعلام السلف الصالح وأهل السنة والجماعة في مؤلفات الأستاذ سيد قطب يرحمه الله ، ولم يشر كذلك ولو إشارة عبارة لهم أو لمؤلفاتهم التي وضعوها عن نقدهم الرافض للفلسفة اليونانية وعلم الكلام ، والفلسفة المنتسبة للمسلمين .

7 – لم يتمكن من إخفاء إعجابه بفلاسفة اليونان وفي مقدمتهم أفلاطون وأرسطو رغم نقده الشديد لما أوردوه من آراء حول مبحث الألوهية .

 

في سبيل تأسيس علم الاستغراب (3)

 

 

 

 

 

 

 

 

موقف الأستاذ محمد قطب من الفلسفة الغربية

( الفلسفة اليونانية )

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

موقف الأستاذ محمد قطب من الفلسفة الغربية

( الفلسفة اليونانية )

     بداية يجب أن ننبه إلي أن الأستاذ محمد قطب يحفظه الله يشير إلي  مسالة غاية في الأهمية ، مسالة تناولها المفكرون والفلاسفة والعلماء و المثقفون على مر العصور ، مسالة ميتافيزيقية ، يريد الإنسان باستمرار أن يبحث لها عن حل ناجع – بعيدا عن الدين - دون جدوى . وهي الأسئلة التي تلح عليه باستمرار : من أين أتيت ؟ ! ، إلي أين أذهب بعد الموت ؟ ! ، ما هي ماهية الموت ،،، الخ . وغيرها من هذه الأسئلة التي أجيب عليها إجابات متنوعة من قبل العلم والفلسفة .

الفلسفة التي تنوعت نظرياتها و تعددت آراءها حتى أنها حيرت الإنسان في الإجابة على هذه الأسئلة وعلي غيرها من الموضوعات التي تناولتها بالدراسة والتحليل وخاصة القضايا الميتافيزيقية . الفلسفة التي عقدت هذا الموضوع و أبهمته ، الفلسفة التي لا يستطيع أن يتعاط معهاإلاالنابهين فحسب .

فإذا كانت الفلسفة عصية على الجمهور في توضيح هذه المسالة وغيرها فإنها لم ترح النابهين في الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها أيضا . لذلك يمكننا القول أن كثيرا من الأسئلة الميتافيزيقية المحيرة للإنسان قد تؤدي به إليالمهالك طالما أنه يبحث فيها وعنها بعيدا عن الدين ، وعندما حاول الإنسان أن يستنطق الفلسفة لتجيبه على هذه الأسئلة زادته حيرة على حيرته . يقول : " فإذا شردت الفطرةزمنا.. وإذا فسدت فطرة جيل من أجيالالبشر أو أفسدت، فليس يترتب على ذلك بالضرورةأن يستمر الشرود، أو يستمر الفساد.وحين يعودون إلى فطرتهم، يعودون إلىالله..ثم إن الدين –وحده- هو الذي يجيب على أسئلة الفطرة: من أين؟ . وإلىأين؟ . ولماذا؟ وكيف؟ . من أين جئتنا؟ . وأين نذهب بعد الموت؟ .  ولماذا نعيش؟ .  (أي ماهدف الوجود الإنساني) . وكيف نعيش؟ . (أي على أي منهج نعيش ). وهي أسئلة تلح علىالفطرة بوعي أو بغير وعي، وتبحث عن الإجابة. وإن لم تتلق إجابة واضحة تطمئن لهاالنفس فإنها تسبب القلق والاضطرابات النفسية والعصبية، وقد تؤدي إلىالجنون أو إلىالانتحار.والعلم قد يجيب إجابة جزئية عن قضية من هذه القضايا، ولكنه لا يمس هذهالقضية!  . والفلسفة تحاول دائما أن تجيب، ولكنها –قط- ما شفت غليل البشر،وهي بطبيعتها تستعص على فهم الغالبية العظمى من الناس، ولا يتعاطاهاإلافئةمحدودة من الناس، وذلك فضلا عن كونها –خلالالتاريخ- قد تخبطت وتقلبت من أقصىاليمينإلى أقصى اليسار."(1)

إذا الفطرة السليمة وحدها فحسب التي تستطيع أن تجيب على هذه الأسئلة الميتافيزيقية أقصد الدين الإلهيالرباني وحده يمكنه أن يطمئن الإنسان و ليست الفلسفة ، الدين الإلهيالبعيد كل البعد عن التحريف و التيه البشري ، وحده يمكنه أن يساعد الإنسان و يجعله ينعم بالسلام الداخلي و الطمأنينة و السكينة . وهكذا يعقد الأستاذ محمد قطب يحفظه الله مقارنة – افتراضية خيالية بكل تأكيد - بين الدين و الفلسفة ، وهو هنا يحفظه الله ينتصر للشريعة على الحكمة ، الحكمة أو العقل الذي لا يمكنه أن يبحث في هذا الموضوع . وإن حاول تناول هذا الموضوع البعيد عن إمكانياته فإنه سيصيب الإنسان بالحيرة و الجاهلية ، وهو يحفظه الله هنا أيضا يبذل قصارى جهده لإنقاذ الإنسان من ضلالات البشرية التي ما تزال تغوص في بحور الجاهلية و التيه .

المبحث الأول : المسلمون و الفلسفة اليونانية :

      لما كانت الفلسفة صناعة غربية و غريبة عنالبيئة العربية والإسلامية ، نجد الأستاذ محمد قطب يحفظه الله يحكي لنا بإيجاز شديد كيفية وصول الفلسفة اليونانيةإليالمسلمين . فإنهم بعد استقرار الأمر لدولتهم واتساع رقعتها وجدوا أنفسهم في حاجة لعلوم الأمم المتقدمة ماديا : الفرس ، والروم لذلك طلبوا هذه العلوم . يقول : " لقد كان المسلمون في نشأتهم الأولي في طور من البداوة لا يملكون شيئاً مما يملكه المتحضرون من حولهم من أسباب الحضارة المادية أو من العلوم. وكان لزاماً عليهم إذا أرادوا الحضارة المادية والعلم أن يأخذوا أسبابهما من الدولتين "العريقتين" عن يمين وشمال فارس والروم. وقد صنعوا ذلك بالفعل... ولكنهم لم يحنوا رءوسهم أبداً, ولم يشعروا بالانبهار. كانوا هم الأعلين, لأنهم كانوا هم المؤمنين. كانوا في حاجة شديدة لتعلم علوم الكفار والوثنيين من حولهم, ولكن هذه الحاجة الشديدة لم تشعرهم بالصغار تجاههم, ولا بأنهم دونهم, بل كانوا يعرفون –ويشعرون- أن العزة لهم, لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين, وليس للكفار والوثنيين شيء من العزة ولو ملكوا كل علوم الأرض, وكل خزائن الأرض!. وحين أخذوا ممن حولهم فقد كان سلوكهم المستعلي بالإيمان واضحاً في طريقة الأخذ, وكان أوضح ما يكون في خصلتين رئيسيتين: الأولي: أن أرواحهم لم تهزم قط أمام أعدائهم تحت ضغط الحاجة إليالأخذ منهم. والثانية: أنهم لم ينقلوا كل شيء وجدوه عند أعدائهم, بل كانوا ينقلون علي بصيرة, فينقلون فقط ما يظنون أنهم في حاجة إليه, مما لا يتعارض مع عقيدتهم وإسلامهم, ويعرضون عن كل ما يرونه غير نافع لهم, أو يرونهم مخالفاً لعقيدتهم  وتصوراتهم, وأوضح مثال علي ذلك أنهم نقلوا علوم الإغريق, ولم ينقلوا ما كان مشهوراً عندهم من الأساطير,لأنهم رأوا فيها أمور الجاهلية الوثنية الغارق في الضلال, لا يستحق أن يلتفت إليه, بل يستحق الزراية والإهمال. " (2)

نستنتج من ذلك أن الأستاذ محمد قطب يحفظه الله يري أن المسلمين عندما نقلوا عن اليونانيين علمهم الذي كانوا في أمس الحاجة إليه ، نقلوا ما يوافق عقيدتهم و تركوا لليونانيين ما يخالف عقيدتهم كالأساطير اليونانية .

هذا الرأي من الأستاذ محمد قطب يحفظه الله لا يوجد في أي مصدر من المصادر التي أرخت لحركة النقل و الترجمة عن اللسان اليوناني .

     وهذا الرأي أيضا لم يثبته أي باحث أو دارس كتب عن نفس الموضوع . فالثابت و المتعارف عليه أن المسلمين لم ينقلوا أو يترجموا كتب اليونانيين بل نقلت إليهم بواسطة نصارى السريان ، فلم يثبت أن أحدا من المسلمين كان على علم بلغة يونان بل النقل تم على أيدي نصارى السريان الذين نقلوا كتب الفلسفة و العلم اليونانيين ولم يترجموا كتب الأساطير والأدب لأنها شركية وثنية و تتعارض مع عقيدة المسلمين ، وأن المسلمين لن يقبلوا عليها . (3)

وبناءا على ما سبق يمكننا القول أنه لا يمكننا  ادعاء أن المسلمين في بداية نهضتهم العلمية هموا بتعلم اللغات اليونانية والرومانية – على نحو ما يشير إلي ذلك الأستاذ محمد قطب يحفظه الله – لأنها لغة العلم في ذلك الوقت . بل إن إشارة الأستاذ محمد قطب يحفظه الله إلياللغة اللاتينية بجوار اللغة اليونانية أمر غير ثابت ولا متعارف عليه ، فإنه لم يثبت هذا الرأي في أي مصدر من المصادر التي أرخت لحركة النقل و الترجمة عن اللسان اليوناني ، وهذا الرأي أيضا لم يثبته أي باحث أو دارس كتب عن نفس الموضوع .

     والأعجب من ذلك أن الأستاذ محمد قطب يحفظه الله لم يشر ولو إشارة واحدة إلي دور نصارى السريان في حركة النقل والترجمة إبان العهدين الأموي و العباسي . ولا أدري لماذا ؟ ! . رغم أنه إن كان عاد للمصادر والكتب التي تؤرخ لهذه الحركة لوجد ذلك واضحا وثابتا فيها . ومن المرجح أن الأستاذ محمد قطب يحفظه الله أراد أن يؤكد علي أن المسلمين كانوا على درجة عالية من الوعي – بفرض أنهم الذين نقلوا – لدرجة أنهم نقلوا ما يوافق عقيدتهم ولم ينقلوا ما يخالف عقيدتهم ، وهذا الأمر – كما وضح غير صحيح – بل النقل تم علي أيدي نصارى السريان فحسب . (4)

     وفي ضوء ما أسلفنا يمكننا القول أن المسلمين نقلت إليهم علوم اليونان و لم ينقلوها ، وأنهم لم يقلدوها فحسب بل صححوا ما وقع فيه اليونان من أخطاء علمية وأضافوا لها بفضل منهج البحث العلمي الذي استقوه من احتكاكهم بالنص المنزل . يقول : " ترجموا – يقصد المسلمون وهذا غير صحيح بل الذي ترجم نصارى السريان - كل ما كان معروفا من العلم يومئذ  وعكفوا على دراسته متتلمذين عليه كما هو الأمر الطبيعيفي مثل هذه الأحوال  وإن كانوا سرعان ما اكتسبوا الحاسة العلمية لأنفسهم  وأخذوا يصححون بعض الأخطاء التي كان العلم الإغريقي يحتوى عليها. ولكن والتوجيهات القرآنية لم تحو فقط تلك الإشارات الكونية وذلك التوجيه للنظر في هذه الآيات والتفكر فيها  إنما حوت أهم من ذلك: منهج البحث. لقد كان العلم لدى الإغريق نظريا فلسفيا تجريديا. يبحث عن النظرية ويفلسفها ويكتفي بعرضها على " العقل " فإن أقرها – بصورة من الصور – فهي صحيحة  بصرف النظر عن وجودها الواقعي أو صحتها الواقعية. ولكن توجيهات القرآن كانت في اتجاه آخر. "(5) وهو الاتجاه العلمي التطبيقي .

     وهكذا فإن الفلسفة طابعها تجريدي نظري بعيدة عن الواقع اليوميالذي يعيشه الإنسان ، ولذلك لا تفيده بالمطلق في مقابل الإيمان الرباني القرآني الذي يؤكد - بما لا مجال للشك فيه - أن الإيمان ما وقر في القلب و صدقه العمل على أرض الواقع اليومي .

     إن العرب عندما اعتنقوا الإسلام تحولوا من أمة ذات جفاء و غلظة و قسوة  إلي هداة مهدين لهذا الدين الحنيف ، فقد بني الإسلام هذا الإنسان المسلم بناء جديدا لا جاهلة فيه ولا عصبية ، بناء يريد أن يؤسس لخير أمة أخرجت للناس ، أمة تبني وتعمل وتعمر الأرض لتحقق معني الخلافة في الأرض . لذلك أقبلوا على الحضارات السابقة عليهم و خاصة حضارة اليونان ، فأخذوا عنهم العلم و الفلسفة ، وصححوا أخطائهم ، وأضافوا لما تركوه في مجالالعلم . مما كان له عظيم الأثر في نهضة الغرب . يقول : " ولكن الإسلام لم يكتف بهذا العمل الجبار في داخل النفوس. وهو العملية الحقيقية التي تستأهل الجهد وتستحق التسجيل، لأنها الهدف الأخير من كل المدنيات والحضارات.. لم يكتف الإسلام بهذا التهذيب العميق للأفكار والمشاعر، بل ضم إليه كل مظاهر المدنية التي يهتم بها الناس اليوم ويحسبونها لباب الحياة، فتبنّى كل الحضارات التي وجدها في البلاد المفتوحة في مصر وفارس وبلاد الروم، ما دامت لا تخالف عقيدته في وحدانية الله ولا تصرف الناس عن الخير الواجب لعباد الله. ثم تبنّى كل الحركة العلمية التي كانت لدى اليونان من طب وفلك ورياضة وطبيعة وكيمياء وفلسفة، ثم أضاف إليها صفحات جديدة تشهد بتعمق المسلمين في البحث، واشتغالهم الجدي بالعلم، حتى كانت خلاصة ذلك كله في الأندلس هي التي قامت عليها نهضة أوربا الحديثة وفتوحاتها في العلم والاختراع. " (6)

     ومن هذا المنطلق لعب العرب و المسلمون دورا كبيرا في تأسيس العلم والنهضة الأوربية وهذا ما يؤكد عليه نفر من المستشرقين المنصفين مقابل المستشرقين المتعصبين الذين ينكرون دور العرب و المسلمين في تأسيس الحضارة الحديثة .

     ويعد منهج البحث العلمي الذي اكتشفه المسلمون أهم عمل قدموه للعالم أجمع . يقول : " ولكن الذي صنعه المسلمون في حركتهم العلمية لا يقف عند حد تصحيح الأخطاء التي وجدوها عند الإغريق ولا ابتداع علوم جديدة كعلم الجبر  ولا اكتشاف كثير من خواص المادة مما أدى إلى تقدم كبير في علم الفيزياء وعلم الكيمياء  ولا اكتشاف الدورةالدموية  ولا ما ابتدعته عبقرية الحسن بن الهيثم في علم الضوء.. ولا يقف كذلك عند منح البشرية سبيل التقدم العلميالصحيح  وهو المنهج التجريبيالذي ما كان للعلم أن يتقدم تقدما حقيقيا بدونه.. إنما كان هناك ما هو أهم من ذلك . لقد حويالقرآن منهجا كاملا للحياة  يشمل جزئيات الحياة جميعا  بما فيها " العلم " ثم يضع كل جزئية في مكانها الصحيح. وهذا الأمر بالذات هو أهم ما قدمته الحركة العلمية الإسلامية  وتبدو قيمته خاصة إذا نظرنا إلىالحركة العلمية التي تقدمها الجاهلية المعاصرة فيالوقت الحاضر. " (7)

     وهذا ما سيوضحه الأستاذ محمد قطب  يحفظه الله بعد ذلك ، ففي حين قدم العرب و المسلمون مع التقدم العلمي تصور كامل و صحيح لحياة الإنسان وفقا للوحي الإلهي و الرباني نجد الغرب مع هذا التقدم العلمي يقدم تصورا إلحاديا لحياة الإنسان .

المطلب الأول : نقل كتب الفلسفة و المنطق اليونانيينإليالمسلمين :

عندما نقلت كتب الفلسفة و المنطق إليالمسلمين ، وكانوا يعيشون في طور الترف الحضاري ، راح فريق منهم  يقلد فلسفة و منطق اليونان ، فظهر المتكلمون و أصحاب الفرق المنتسبين للإسلام  . يقول : " ثم كانت فتنة الغزو الفكري الثقافي الإغريقي متمثلا في المنطق و الفلسفة و ما أدي إليه من ظهور الفرق و علم الكلام ... إنه لون من الترف .. الترف العقلي إن صح التعبير .. فحين يفرغ الناس من المشاغل الجادة ، ويجدون في أنفسهم فضلة من طاقة ، يصرفونها فيما دون الجد من الأمور .. حتى ينتهي بهم الأمر في الأخير إلي موت الطاقة ذاتها والإخلاد إليالضياع . جاءت العدوى من دراسة المسلمين للغة اليونانية ( واللاتينية ) – هذا لم يثبت - من أجل التعرف على العلم الموجود عند البيزنطيين . وفي الطريق عثروا على الفلسفة الإغريقية والمنطق الإغريقي فظنوهما أداة نافعة يمكن أن يفيدوا بها الإسلام . وسرعان ما أصبح التمنطق والتفلسف هو " مودة " العصر ! ولم يعد " المثقف " يعتبر مثقفا حتى يكون قد اطلع علي المنطق اليوناني والفلسفة و تكلم بهما في المجالس ! وزاد الأمر سوءا أن " الخلفاء " ابتدعوا بدعة حمقاء ، وهي أن يدعوا من اليهود و النصارى في مجالسهم من يقوم بإطراء دينه ومهاجمة الإسلام ، ثم يدعوا علماء المسلمين ليردوا عليهم دعواهم و يفحموهم ! ! . و لما كان المنطق و الفلسفة هما الأداة المستخدمة في لاهوت اليهود و النصارى ، فقد كان على علماء المسلمين أن يجيدوهما ليدحضوا كلامهم بذات الأدوات التي يستخدمونها هم في عرض عقيدتهم . وقد كان .. و لكن " اللوثة " أصابت أولئك " المثقفين " فألفوا " لاهوتا إسلاميا " يعرضون فيه العقيدة الإسلامية ممثلا في علم الكلام ! وكان هذا هو المزلق الخطير الذي رشح لظهور الفرق الزائغة عن الإسلام . " (8)

 يبدو لنا واضحا أن الأستاذ محمد قطب يحفظه الله يري أن هذه الفئة من المسلمين أقبلوا على فلسفة اليونان ومنطقهم نظرا لظنهم أنها أداة نافعة يمكن أن تفيد الإسلام . ولكننا عندما نرجع إليالمصادر والكتب التي أولفت في هذا المجال نجدها تجمع على أن هذا النفر من المسلمين أقبلوا على فلسفة اليونان ومنطقهم بسبب انبهارهم بفلسفة اليونان و منطقهم و إعجابهم الكبير بفلاسفتهم ، و أنهم قاموا  بالتلفيق بين العقيدة الإسلامية من جهة و فلسفة اليونان و منطقهم من جهة أخرى بهدف تقليد فلسفة اليونان و منطقهم و كذلك لإنتاج علم كلام إسلامي على غرار اللاهوت النصراني .

     وكانت النتيجة تأويلات فاسدة لنصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة للتلفيق بينها وبين فلسفة اليونان ومنطقهم مما أدي إلي كثير من الانحرافات العقدية التي ما نزال نعاني منها حتى الآن . ولقد أحدث الفلاسفة المنتسبين إليالإسلام في البيئة العربية والإسلامية عديدا من الانحرافات العقدية والمفاسد والضلالات التي أضرت كثيرا بالإسلام والمسلمين .

     بسبب حركة النقل والترجمة للفلسفة والمنطق اليونانيين شاعت في البيئة الإسلامية الفرق المنتسبة للإسلام التي أدخلت في البيئة الإسلامية الكثير من الانحرافات والجهالات . يقول : " ولئن كان الخوارج قد ظهروا من قبل في عهد على رضيالله عنه واستمروا فيالعهد الأموي ، وظهر المرجئة رد فعل لظهور الخوارج ، وكان أمر هؤلاء وهؤلاء منبعثا من فتنة مقتل عثمان والقتالالذي دار بين على ومعاوية ، فقد تفشت الفرق تفشيا ذريا فيالعصر العباسي ، وكانت لها منابع خارجية في هذه المرة إلى جانب المنابع الداخلية. لقد نشطت الحركة العلمية فيالعصر العباسي ، ونشطت معها حركة الترجمة من الإغريقية واللاتينية - هذا لم يثبت - ، وكان فيها الكثير النافع الذي تحتاج إليه الأمة بالفعل ، ولكن المسلمين انخدعوا في لون من الفكر حسبوه نافعا لهم فنقلوه إلىالعربية فكان منه شر كثير ،إلاوهو الفلسفة الإغريقية. لقد كانت تلك الفلسفة فكرا جاهليا رغم كل إشراقاته وكل تجلياته. وما كان ينبغي لهذا الفكر الجاهلي بحال من الأحوال أن يمتزج بالإسلام ، ذلك النور الربانيالخالص الذي يشرق بذاته ، من مصدريه الأصيلين الصافيين ، كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه و سلم ، والذي عاش على إشراقته ذلك الجيل المتفرد فكان كما كان. وأسوأ ما في ذلك الفكر هو عقلانيتهالتجريدية التي تحول كل شيءإلى فكرة مجردة باردة لا حياة فيها ولا حركة ، فضلا عن تضخيم دور العقل حتى يصبح هو الحكم الأخير في كل أمر من الأمور . " (9)

 نستنتج من ذلك أن الفلسفة اليونانية نظرية لا صلة لها بالواقع ، بالإضافة إلي أن العقل اليوناني حلق في فضاء ليس مجاله تماما. ورغم ذلك نجد الأستاذ محمد قطب يحفظه الله لا يخفي إعجابه بالفلسفة اليونانية رغم ما فيها من جاهلية على نحو ما ذكره هو آنفا .

     ونستنج أيضا أن الأستاذ محمد قطب يحفظه الله يستنكر امتزاج هذه الجاهلية بالإسلام وهذا أمر لا مراء فيه ، ولكن واقع الحال أن الفلسفة اليونانيةالخبيثة عندما امتزجت بالنصرانية صارت النصرانية  " نصرانية مفلسفة "  لأن النصارى أدخلوا الفلسفة و المنطق اليونانيين في عقيدتهم لحل مشاكلهم العقدية التي افتعلوها وفي مقدمتها تحدد طبيعة شخصية المسيح عيسي عليه السلام . وبالنسبة للإسلام فلم يمتزج بالفلسفة اليونانية بل امتزجت الفلسفة اليونانية  بتأويلات وتفسيرات المتكلمين والمتفلسفة المنتسبين للإسلام لنصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة . بدليل أنه لم يزعم أحد منذ ذلك الحين – حتى المتعصبين من المستشرقين – أن التلفيق بين فلسفة اليونان والإسلام رشح عنه إسلام مفلسف وكذلك لم نسمع أن القرآن الكريم دخلت عليه الفلسفة وحرفته بل هو محفوظ من قبل المولي عز وجل .

     ولذلك أعتقد أن عبارة الأستاذ محمد قطب يحفظه الله يجب أن تعدل من " ... وما كان ينبغي لهذا الفكر الجاهلي بحال من الأحوال أن يمتزج بالإسلام ... " إلي " ... وما كان ينبغي لهذا الفكر الجاهلي بحال من الأحوال أن يمتزج بالفكر الإسلامي ... " .

المطلب الثاني : آثار الفلسفة و المنطق اليونانيين علي الفرق و الفلاسفة المنتسبين للإسلام :

     نعم ، انتقالالفلسفة والمنطق اليونانيين لم يؤد إلي ظهور الفرق الظاهرة أمام أعيوننا فحسب كالمعتزلة والإماميةالاثني عشرية ،،،الخ بل أدي كذلك إلي ظهور الفرق الباطنية الأخرى . يقول : " ولكن الفتنة بالفلسفة من جهة ، وفتح الخلفاءالعباسيين المجال من جهة أخرى للمناظرة بين علماء المسلمين وبين اليهود والنصارى في أمر الإسلام ، جعل " المثقفين " في ذلك العصر يتجهون إلىالفلسفة الإغريقية لتعينهم في هذا الجدل ، حتى أصبحت هي " المودة " الفكرية للعصر كله. ومن لوثة الفلسفة الإغريقية والعقلانية الإغريقية نشأت فرق كثيرة وتخبطات كثيرة في فكر المسلمين. ويذكر الناس المعتزلة نموذجا للغزو الفكريالإغريقي في فكر المسلمين ، حيث جعلوا العقل هو المحكم فيالوحي ، وجعلوه هو المرجع الأخير في كل أمر من الأمور حتى العقيدة. ولكن المعتزلة لم يكونوا وحدهم الذين تأثروا بالعقلانية الإغريقية وانحرفوا بها عن عقيدة الآلامالصحيحة ، فكل الذين خاضوا في قضايا الصفات من " المتكلمة " وفى قضايا القضاء والقدر والجبر والاختيار.. كان اعتمادهم في " الكلام " الذي قالوه ، على تلك العقلانية التي تعطى العقل أكبر من حجمه الحقيقي ، وتجعله هو المرجع وهو الحكم في كل قضايا الوجود ، فانزلقوا إلى تصورات لا هي إسلامية صافية ، ولا كانت العقيدة الإسلامية الواضحة البسيطة السمحة في حاجة إلىشيء منها ، ولا هي قدمت أي خدمة لتلك العقيدة ، بل حولتها من تصور صاف ووجدان هي وسلوك عملي يقصد به مرضاة الله ، إلى قضايا ذهنية تجريدية باردة ، لا تزيد الإيمان إن لم تبعث على إثارة الشكوك والشبهات المناقضة للإيمان ، ولا تحرك الوجدان ، ولا تؤدى إلى سلوك واقعي ، لأن من شأن العقلانيات أن تبدأ فيالذهن وتنتهيفيالذهن ، وتجد تحقيق غايتها في ذلك الجهد الذي يبذله الذهن ، دون أن تخرج من هذه الدائرة المغلقة إلىالواقع الحي عن طريق الوجدان والسلوك. وورث العالم الإسلامي - مع الأسف - ذلك التراث الإغريقي - وإن لبس ثوبا إسلاميا - على أنه " العقيدة الإسلامية " أو على أنه " الدراسة العلمية للعقيدة الإسلامية " كأن أصحاب رسول الله صلي الله عليه و سلم لم يكونوا " هم " أصحاب هذه العقيدة وأكثر الناس فهما لها وقربا من حقيقتها.. دونما حاجة إلى هذه المعاظلاتالذهنية الباردة السخيفة. وما زال هذا التراث الإغريقيفي ثوبه الإسلاميالمزيف هو الذي نقدم من خلاله العقيدة الإسلامية للدارسين في كل معاهدنا الإسلامية من المحيط إلىالمحيط! . وهذا كله فضلا عن " الفرق الباطنية " التي انتشرت فيالعصر العباسي بصفة خاصة ، ومدت لها جذورا فيالأرض الإسلامية ، وكونت دولا أو دويلات ، وشغلت المسلمين بمحاربتهم ومطاردتهم بضعة قرون ، وكانت في جملتها ذات صلة خفية باليهودالمندسين فيالعالم الإسلامي .. تتظاهر بالإسلام وهى تعمل في واقع الأمر لتقويض الإسلام ، وتترك شيئا من معتقداتها في كل مرة في أذهان العوام! . " (10)

نعم ، ماتزال بعض المؤسسات العلمية تقدم العقيدة الإسلامية على هذا النحو أقصد تراثا يونانيا في ثوب إسلامي نعم ، بعض المؤسسات العلمية تفعل ذلك وليس كل المؤسسات العلمية تفعل ذلك لأنه يوجد بعض المؤسسات العلمية من المحيط إليالمحيط تقدم لطلاب العلم العقيدة الإسلامية الصحيحة النقية الصافية النابعة من القرآن الكريم والسنة الشريفة . و تقدم إلي جوارها العقيدة الفاسدة التي تقوم على التلفيق بين العقيدة الإسلامية والفلسفة اليونانية مخافة الوقوع فيها . والقائمون على هذه المؤسسات يبينون لطلاب العلم أن العقيدة الصحيحة هي عقيدة أهل السنة والجماعة وأما ما عداها فهو يمثل العقيدة الفاسدة .

     ويشير الأستاذ محمد قطب يحفظه الله إليالمزيد من مفاسد الفلسفة وضلالاتها . فمن جنايات الفلسفة اليونانية علي الفكر الإسلامي أيضا ظهور الفكر الإرجائي الذي يزعم أن الإسلام نظر أو قول فحسب دون عمل بالمطلق . يقول : "  القول بأن الإيمان هو التصديق ، أو هو التصديق والإقرار على أحسن الفروض وإخراج العمل من مسمى الإيمان ، كان من أخطر المزالق التي أدخلتها الفرق على تلك العقيدة الصافية ومفهومها الصحيح. وإذا كان هذا الانحراف الخطيرفي فهم عقيدة التوحيد لم يؤثر لتوه فيالحياة الإسلامية ، لأن الدفعة الحيوية الهائلة التي أطلقها الإسلام في واقع الحياة كانت ما تزال تتدفق في صورة " عمل " واقعي بمقتضى هذه العقيدة ، فإنه تدريجيا مع الميل البشرى الطبيعيإلىالتلفت من التكاليف ، حدث تقاعس مستمر عن العمل بمقتضى هذا الدين ، اكتفاء بأن حقيقة الإيمان مستقرة فيالقلب ، مادام الإنسان قد صدق وأقر بأنه لا الهإلاالله! وأنه ما دامت هذه الحقيقة مستقرة فيالقلب فقد" تم " الإيمان المطلوب ، ولم يعد يضر مع الإيمان شيء ! . إن إخراج العمل من مسمى الإيمان في هذا الدين الذي نزل لينشئ " واقعا " معينا تحكمه شريعة الله و منهجه للحياة ، أمر مذهل فيمجرد تصوره ... ألهذا أنزل الله دينه وأرسل رسوله صلي الله عليه و سلم ؟! . لمجرد أن يصدق الناس بقلوبهم ويقروا بألسنتهم ، ثم يتركوا واقع الحياة تحكمه الجاهلية التي لا تصدق بقلبها ولا تقر بلسانها؟! . " (11)

يتضح من ذلك أن الفكر الإسلامي صار على أيدي المرجئة قول بلا عمل وهذا مخالف للعقيدة الإسلامية التي تخبرنا أن الإيمان ليس بالتمني و لكن الإيمان ما وقر في القلب و صدقه العمل و ليس القول ، وأن الإيمان يزيد و ينقص . فالدين الإسلامي دين توكل و ليس دين تواكل . توكل على رب العالمين الذي خلق الإنسان و طالبه بالسعي في هذه الدنيا ليعمرها بالعمل الجاد والنافع لكل بني الإنسان .

     ويرجع الأستاذ محمد قطب يحفظه الله هذه المفاسد و الضلالات التي زعمها المرجئة إلي لوثة الفلسفة . يقول : " وما من شك أن هذا الفكر كان في مبدئه عدوى من الفلسفة والمنطق البعيدين عن روح هذا الدين. وأنه كان عند " علماء " المرجئة الأوائل مجرد " أفكار " تجريدية تدور في " الأبراج العاجية " ولا تتصل بالواقع! فقد كانوا هم أنفسهم من الأتقياء الفضلاء العالمين بمقتضى هذا الدين في واقع حياتهم ، فلا هم تقاعسوا عن العمل ولا دعوا إلىالتقاعس عنه. بل إنهم حين كانوا يكتبون فيالفقه ، كانوا يكتبون بوعي كامل أن هذا الدين اعتقاد وعمل لا ينفصلان. ولكنها لوثة الفلسفة والمنطق والأبراج العاجية التي يحدث فيها ما يحدث من الخلل والانحراف والاضطراب. " (12)

     وهذه جناية من جنايات كثيرة للفلسفة على الفكر الإسلامي  وفي مقدمة هذه الجنايات تلك الانحرافات العقدية و الفكرية التي تسببت الفلسفة في ظهورها في البيئة العربية الإسلامية .

ويتعجب الأستاذ محمد قطب يحفظه الله من هؤلاء المتكلمين الذين حولوا الأسماء و الصفات الواردة في القرآن الكريم إلي جدل عقيم لا طائل من وراءه . يقول : " هل أنزلت هذه الأسماء والصفات لنحولها إلى جدل ذهني أو قضايا فلسفية كما فعلت الفرق الضالة بتأثير الغزو الفكرياليوناني أو غيره من التأثيرات؟! . " (13)

     ويبدو ذلك بوضوح و جلاء في التفسيرات التي تفسير الآيات القرآنية بالرأي أو بالمعقول ، فقد أولوا بعض الآيات بما لا يتفق مع صريح النص ولا مع صحيح العقل , وهذا ما لا يتفق أيضا مع عقيدة أهل السنة والجماعة والسلف الصالح الذين آمنوا بالنص على نحو ما ورد في القرآن الكريم دون أي تأويل يذكر .

     ويستطرد في سرده لضلالات الفلسفة التي وقعت على الفكر الإسلامي بسبب تعاطي هذا النفر من المسلمين مع الفلسفة . يقول : " وقد غشت غواش كثيرة علي هذا الفهم الواضح للدين خلالالقرون ، من الفكر الإرجائي ، والفكر الصوفي ، والبدع والمعاصي والانحرافات و الغزو الفكري فشوهت كثيرا من مفاهيم الدين الاعتقادية و التعبدية و العملية .. " (14)

فقد دخلت على المسلمين جراء ذلك كثيرا من الجهالات و الشركيات والبدع والأهواء مما أدي إلي افتراق أهل القبلة الواحدة إليالعديد من الفرق التي استفادت من الفلسفة مقابل أهل السنة والجماعة و السلف الصالح الذين التزموا بالقرآن الكريم و السنة الشريفة . ومن أبرز تلك المفاسد ترجيح العقل البشري على النص الديني مما ترتب عليه العديد من الضلالات والمفاسد في البيئة العربية و الإسلامية .

     ويستطرد موضحا السلبيات التي تسبب في انتشارها بين المسلمين التصوف . يقول : "  وكذلك كان الفكر الصوفي غريبا عن الإسلام كما أنزله الله، ذلك الفكر الذي يحصر العبادة في الوجد الروحي والذكر، ويضخم الشيخ في حس المريد حتى يصبح واسطة بينه وبين الله، بينما الإسلام ينفي كل وساطة بين العبد والرب، ويجعل العبادة شاملة لكل حياة الإنسان، ويجعل الجهاد ذروة سنام الأمر . " (15)

 نستنبط من ذلك أن الأستاذ محمد قطب يحفظه الله لم يرفض علم الكلام والفلسفة المنتسبين للإسلام فحسب بل أنه يحفظه الله يري أن التصوف المنتسب للإسلام بريء منه الإسلام وبريء منه المسلمون بسبب الانحرافات العقدية الشائعة في التصوف المنتسب للمسلمين . وهذا الموقف الأيديولوجي للأستاذ محمد قطب يحفظه الله من التصوف المنتسب للمسلمين يخالف فيه القواعد التي أسست عليها جماعة الإخوان المسلمين من أنها جماعة صوفية علي نحو ما أسسها الأستاذ البنا يرحمه الله .

    وبالنسبة للفلسفة المنتسبة للمسلمين التي ابتدعها الفلاسفة المنتسبين للإسلام فهي تقليد لفلسفة ومنطق اليونانيين . يقول : " فمما لا شك فيه - عندي - أن ما يُسمّى " الفلسفة الإسلامية " هو فكر إغريقي وإن تناول موضوعات إسلامية، أو قل إن شئت إنه عرض للإسلام من خلال أداة غريبة على الإسلام، هي " الفلسفة الإغريقية "، و" المنطق الإغريقي ". " (16)

     وهكذا صاغ الفلاسفة المنتسبين إليالإسلام ما هو إسلامي في قالب غير إسلامي مما أدي إلي هذه الجهالات و المفاسد التي أحدثها المتفلسفة المنتسبين إليالإسلام وغيرهم ممن نشر بدعه في المجتمع المسلم كالمتصوفة الذين أدخلوا علينا القول بالحلول ، ووحدة الوجود ، والفناء و غيرها من الأفكار البريء منها الإسلام تماما .

     ويوضح الأستاذ محمد قطب يحفظه الله أن كون الفلسفة المنتسبة للمسلمين إسلامية الموضوع ويونانية الشكل لا ينفي عن المسلمين ما صححوه من علوم اليونانيين وأضافوه لها . يقول : " وقد يكون هذا الوصف صادقا على ما يسمى " الفلسفة الإسلامية " فقد كانت إغريقية حقا وإن لبست ملابس المسلمين ! فقد كان منهج التفكير فيها إغريقيا وإن تناولت موضوعات إسلامية . وهذه فيرأييهي أضعف نقاط الثقافة الإسلامية على الإطلاق . أما أن توصف الحركة العلمية والفكرية والإسلامية كلها بأنها إغريقية ، لمجرد أنها استمدت من الثقافة الإغريقية عند البدء ، فمغالطة متبجحة لا يسندها الواقع ، كما لو قلنا إن العلم الحاضر إسلامي كله ولا فضل لأوروبا  فيه ، لمجرد أنه استمد أصوله كلها من المسلمين ! وهذه مغالطة لا يقولها أحد منا ولو قالها لكانت مضحكة غير مقبولة لأن الله أمرنا إذا قلنا أن نعدل .. ولو كان ذا قربى .. [ الأنعام : 152 ] " (17) وشهد المنصفون من المستشرقين بأن العرب و المسلمين صححوا كثيرا من أخطاء اليونانيين في مجالالعلم بل يشهدون أيضا بإضافاتهم المهمة وكذلك بمكتشفاتهم ومخترعاتهم الكبيرة في مقابل المتعصبين من المستشرقين الذين ينكرون ذلك و يزعمون أن كل ما فعله العرب و المسلمون أنهم نقلوا وحفظوا تراث اليونانيين فحسب .

 ويقرر الأستاذ محمد قطب يحفظه الله أن العقيدة الإسلامية لم تكن في حاجة للفلسفة اليونانية لتستفيد منها في توضحيها بل حدث العكس فقد عقدت وأبهمت العقيدة عندما استعان بها نفر من المسلمين في تأويل وتفسير نصوص هذه العقيدة  . يقول : " وينبغي لنا ونحن ندرس انحرافات تلك الفترة أن نبرز ذلك المعني ، وهو أن الإسلام لم يكن في حاجة – بعد البيان القرآني الناصع الواضح المبين – أن نلجأ إليالفلسفة – إغريقية أو غير إغريقية – لبيان عقيدته ، فنعقدها و هي واضحة ، ونغشي عليها و هي وضاءة ، ونولد فيها مشاكل ذهنية لا وجود لها في الأصل ، لنشغل أنفسنا بحلها بعد أن نوجدها ! إنما كان ذلك من جراء الغزو الفكري اليونانيالذي جاء بغير قصد في أثناء البحث عن العلوم . " (18) .

يقرر هنا الأستاذ محمد قطب يحفظه الله أن غزو الفلسفة اليونانية للبيئة العربية الإسلامية جاء بدون قصد من المسلمين بل هي التي واجهتهم أثناء ترجمة كتب العلوم الطبيعية . أزعم أن الأمر كان عن قصد بل أنه كان مع سبق الإصرار والترصد . فمن الثابت والمتعارف عليه في المصادر والكتب التي أولفت عن حركة النقل و الترجمة ، أن الخليفةالمأمون في العصر العباسي عندما استطال على ملك الروم طلب منه كتب أرسطو ، وبعد أن شاور ملك الروم وزرائه ومستشاريه خرج عليه كبير القساوسة ونصحه أن يرسلها له فإنها ما دخلت على أمة ذات عقيدةإلاو زلزلت عقيدتها ، ولذلك راح نصارى السريان يحملون هذه الكتب على جمال و يعودون بها إلي دار الخلافة في بغداد و أخذوا يترجمونها للمسلمين وهم على علم ودراية بما يوجد فيها من ضلالات ومفاسد  تضر بالعقيدة الإسلامية . (19)

     ويستطرد موضحا أنه على الرغم مما أصاب المسلمين من جهالات بسبب الفلسفة اليونانية إلاأنه كان يوجد من المسلمين – وهم الكثرة – من صحح وأضاف للعمل الذي قدم من عند اليونان . يقول : "   وفي ظل هذه التوجيهات أعمل المسلمون فكرهم في كل مجالات البحث ، لا يشعرون بالتناقض بين مقتضيات دينهم و مقتضيات فكرهم –إلامن شذ منهم بتأثير الغزو الفكري اليوناني أو شطحات الصوفية ، وهم قلة علي أي حال في خضم الإنتاج الفكري الهائل الذي أنتجه المسلمون – و لم يكون هناك هيئة من " الإكليروس " تراقب أعمالهم لتقدمهم إلي محاكم التفتيش ، إنما كانت هناك ضمائرهم تحاسبهم لكي يقولوا الحق ولا يحيدوا عنه ، وكان " الحق " الذي يمثله دينهم يملأ قلوبهم فيزيدهم قربا من الله كلما اكتشفوا جديدا من العلم ، فكانوا كما قالالله عنهم " إنما يخشي الله من عباده العلماء " [ فاطر : 28 ]  . " (20، 21)

لقد كان المسلمون يمارسون البحث العلمي الرصين الذي ينفع الإنسان في هذه الدنيا . وبالفعل لم تكن عليهم رقابة تذكر من قبل هيئة دينية كما كان الأمر في أوربا في العصور الوسطي المظلمة بل كلن الرقيب عليهم هو خوفهم من الله عز و جل .

إن الفكر الإسلامي الرصين بعيدا عن ذلك الفكر المنحرف بفعل الفلسفة اليونانية ، فكرا متميزا و متفردا ولا مثيل له لأنه نابع من القرآن الكريم والسنة الشريفة وأعني هنا بهذا الفكر العلوم الشرعية . يقول : "لقد أبدع العقل الإسلامي فكرا رائعا على مساحة واسعة لعدة قرون، وكانت مزيته العظمى فيما عدا الشاذ الشاطح منه أنه نابع من الإسلام، مستمد من أصوله، منبثق من ينابيعه الصافية، غير متأثر بلوثاتالجاهلية من حوله. وإذا أسقطنا من حسابنا من تأثروا بالفكر الإغريقيالفلسفيوالكلامي فإن الفكر الإسلاميالأصيل يظهر جليا فيالعلوم الشرعية كلها: علوم القرآن وعلوم الحديث والفقه والأصول وعلوم اللغة، وكلها إنتاج فذ لا مثيل له فيأي لغة أخرى غير العربية، ولا عند أي أمة أخرى غير الأمة الإسلامية. ولكن هذا على غزارته وسعة آفاقه لم يكن هو الإنتاج الفكريالوحيد للمسلمين، المستمد من أصول الغزاليفي أغوار النفس البشرية، وكلام الماوردى والقابسىفيالتعليم، وجهود المؤرخين المسلمين والجغرافيين المسلمين، وهذا كله غير الدراسات الأدبية والنقدية التي تتكلم عن إعجاز القرآن أو عن أسرار البلاغة أو عن العلاقة بين المعنى واللفظ0إنتاج ضخم، لفكر حي متحرك، لقوم يعيشون الإسلام واقعا، فيشكل الإسلام فكرهم ومشاعرهم كما يشكل سلوكهم، ويشكل ثقافتهم كما يشكل ممارساتهم. وكان الفكر الحيالمتفتح انعكاسا للواقع الحيالمتحرك00 " (22)

     وإن كنا نتفق مع الأستاذ محمد قطب يحفظه اللهإلاأننا نختلف معه في أنه لم يورد شيئا يذكر عن جهود أهل السنة والجماعة في الرد على المبتدعة والمنحرفين عن طريق القرآن الكريم والسنة الشريفة ، لم يذكر قط موقف الإمام أحمد بن حنبل يرحمه في مواجهة فلسفة اليونان ومنطقهم من خلال محنته المشورة للقاصي و الداني ، ولم يذكر أيضا ما تحمله شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله وتلميذه ابن قيم الجوزية وغيرهم كثير من أهل السنة والجماعة الذين تحملوا الظلم و التشريد و السجن بسبب ردهم على الانحرافات العقدية والضلالات والمفاسد التي نشرها المتكلمون و أصحاب الفرق المنتسبين للإسلام والمتفلسفة المنتسبين إليالإسلام أيضا .

أين ذلك التراث القيم الذي تصدي أصحابه لهذه الانحرافات أم أن الأستاذ محمد قطب يحفظه الله يري أن كل ذلك التراث القيم الذي مازلنا نسبر أغواره حتى الآن ليس تراثا إسلاميا ولذلك لم يشر إليه و لو إشارة عابرة .

المبحث الثاني : الغرب و الفلسفة اليونانية :

     إن التراث اليوناني ليس فلسفة و علما فحسب بل أن التراث اليوناني يشتمل بالإضافة إلي ذلك على الشعر ، والفن ، والأساطير ، والتصوير ، والنحت وغيرها من مظاهر الحضارة والمدنية . و الأستاذ محمد قطب يحفظه الله لن يقف عند الحديث عند الفلسفة اليونانية فحسب بل أنه سيتطرق كذلك إليالأدب و الشعر و الأساطير ، كمحاولة لاستجلاء المصادر التي يعتمد عليها الغرب في بناء حضارته و مدنيتهالحديثة و المعاصرة . و عندما يقوم يحفظه الله بهذه المحاولة لن يكيل بمكيإلين على نحو ما يصنع المتعصبون من المستشرقين عندما يدرسوا ما أنتج العرب والمسلمون من حضارة بشقيها المادي والروحي . بل إن الأستاذ محمد قطب يحفظه الله سيكون موضوعيا في دراسته لهذا التراث ، إنه يحفظه الله لن يوضح سلبياته فحسب بل سيبين إيجابياته كذلك .  

المطلب الأول :سلبيات التراث اليوناني و إعجابه بالمأساة اليونانية :

     يشير الأستاذ محمد قطب يحفظه الله إلي أن ما تركه اليونانيون كان رائعا ، ومنه ما هو نافع ، ومنه ما ضار كذلك . يقول : " وما من شك في أنه كان "جهدا " بشريا رائعا ، في تعدد جوانبه و اتساع آفاقه .. وما بنا أن نبخس الناس أشياءهم ! وما بنا أن نحاسب الإغريق على جوانب النقص في تفكيرهم أو جوانب انحراف .. فقد اجتهدوا جهدهم . ولم يكن لهم من معلم يقوم انحرافهم ويردهم إليالصواب فيه . ولا كان في وسعهم – بمفردهم – أن يقوموا هذا الانحراف . . وإنما نريد فقط – بغير لوم موجه إلي أحد – أن نبين جوانب الانحراف في التراث اليوناني– والانحراف سمة دائمة من سمات الجاهلية – لأنها تفيدنا في تبين ملامح الجاهلية الحديثة ، التي تستمد غذاءها من ذلك التراث . نقول : بغير لوم موجه إلي أحد .. أحد من أولئك الأقدمين ، الذين اجتهدوا جهدهم و لم يجدوا من يهديهم . ولكنا لا نخلي من اللوم أولئك الذين يأخذون عنهم انحرافهم – في الجاهلية الحديثة – بغير مبرر للانحراف ..إلاشهوة الانحراف ! . وفي التراث اليوناني أشياء كثيرة نافعة دون شك .. كما في التراث المصري القديم والتراث العربي القديم و التراث الفارسي القديم والتراث الهندي والصيني ... الخ . ولكن هناك أمرين يستحقان التنبيه في هذا الشأن :الأول : أن أوروبا – في جاهليتها الحديثة – قد بالغت مبالغة شديدة في تضخيم التراث اليوناني– تعصبا منها لأوروبا ّ! – حتى خيلت للناس أنه – في جميع أحواله –القمة التي ليس بعدها قمة .. بل القمة التي يقاس إليها الوحي الإلهي ذاته فيصدق أو يكذب – و غالبا يكذب ! – لأنه المحك الصادق الذي لا يوجد أصدق منه في الوجود ! ! . الثاني : أن إعجابنا ببعض جوانب هذا التراث – كإعجابنا ببعض التراث المصري القديم أو الفارسي أو الهندي أو الصيني – لا ينبغي أن يكون معناه إعطاء هذا التراث قيمة "مطلقة " ! فإنما يقاس دائما إلي قوته . ولا ينبغي أن يكون معناه كذلك استحياء  هذا التراث في انحرافاته الجاهلية التي ربما كان لها عذر فيها ، ولكن لا عذر لنا نحن في استحيائها و إتباعها ، بعد إذا خرجنا – أو ينبغي أن نكون قد خرجنا – من الجاهلية إليالنور ! " (23)

نستنج من ذلك أنه يحفظه الله يؤكد على أن إعجابه ببعض من هذا التراث لا تعني أنه سيقلده ، فالأمر مجرد إعجاب فحسب بجهد بشري مبذول مثل غيره من الجهود البشرية التي شاركت في بناء الحضارة الإنسانية. 

     وينبهنا يحفظه الله إلي بعض السلبيات الكائنة في هذا التراث الذي يتباهي به الغرب الآن . فعاب على اليونانيين– مثلا – موقفهم من المرأة . يقول : " أرقى الأمم القديمة حضارة وأزهرها تمدنا في التاريخ، هم اليونان. وفي عصرهم البدائي كانت المرأة في غاية من الانحطاط وسوء الحال من حيث نظرية الأخلاق والحقوق القانونية والسلوك الاجتماعي جميعا . فلم تكن لها في مجتمعهم منزلة أو مقام كريم. وكانت الأساطير (Mythology ) اليونانية قد اتخذت من امرأة خيالية اسمها " باندورا " (Pandora) ينبوع جميع آلامالإنسان ومصائبه، كما جعلت الأساطير اليهودية حواء: العين التي تنشق منها جداول الآلام والشدائد. وغير خاف على أحد ما كان لهذه الأسطورة اليهوديةالشنيعة عن حواء من تأثير عظيم في سلوك الأمم اليهودية والمسيحية قبل المرأة، وما كان لها من مفعول قوي في حقول القانون والأخلاق والاجتماع عند هؤلاء الشعوب. وكذلك أو دونه بقليل كان تأثير الأسطورة اليونانية عن (باندورا) في عقولهم وأذهانهم. فلم تكن عندهمإلاخلقاً من الدرك الأسفل، في غاية من المهانة والذل في كل جانب من جوانب الحياة الاجتماعية. وأما منازل العز والكرامة في المجتمع فكانت كلها مختصة بالرجل. " (24 ، 25)

   و يؤشر كذلك على سلبية أخرى وهي الفساد الذي أصاب معتقداتهم الروحية . يقول : " فالإغريق قد بلغوا الذروة - في عصرهم - في التقدم " الفكري " الخالص. في الفلسفة والعلوم النظرية. ومع ذلك كانت في حياتهم اختلالات جمة. أبرزها الاختلال في الجانب الروحي. فالذهن المتضخم كان يطغى على نشاط الروح. " (26) لذلك طغت على اليونانيين حيلة النظر العقلي و التجريد و البعد عن الواقع .

يصرح الأستاذ محمد قطب يحفظه الله بأن أدبنا العربي يندرج تحت صنف واحد من صنوف الشعر اليوناني . يقول : " كان أول التيه أننا حملنا أدبنا العربي كله فوضعناه على الميزان الغربي ، فاتضح لنا – ويا للأسف – أنه ليس عندنا أدب ! ... شعرنا كله – أو جلّه – يندرج تحت بند واحد من بنود الشعر اليوناني ، الذي هو أصل الأصول في فن القول وفن الحياة الذي كان الرعاة يتسلونبغنائه و هم يرعون ... أغنامهم ، ذلك البند هو " الشعر الغنائي " فيبثون فيه أشواقهم وأحزانهم ، وذكرياتهم وهمومهم الذاتية .. ولكن ليس عندنا ملحمة ، وليس عندنا مسرحيّة شعرية .. وليس عندنا .. وليس عندنا .. والمأساة الكبرى أنه ليس لدينا في أدبنا مأساة ! . " (27) 

أعتقد أن عدم وجود الشعر المأساوي في شعرنا العربي ليس بالأمر الكارثىالذي يصوره الأستاذ محمد قطب يحفظه الله . فعدم وجود هذا الفن في شعرنا اعتقد أنه أمر ممكن تحمله .                                                                  

وهكذا لا يخفي  الأستاذ محمد قطب يحفظه الله إعجابه الشديد بالمأساة اليونانية بل أكثر من ذلك يعيب علينا كعرب أنه لا يوجد في شعرنا العربي المأساة  ولقد أعد ذلك صدمة له . يقول : " المأساة اليونانية هي أدب الدنيا والدين . هي عصارة التجربة البشرية العميقة الواصلة إلىالأغوار .. أغوار النفس البشرية ، وأغوار السنن التي تحكم حياة الإنسان على الأرض .. وخلوّ أدبنا منها عار ما بعده عار ! ...والمأساة اليونانية في حقيقتها – مع كل " أغوارها " ودقتها وبراعتها في الأداء الفني – هي صراع البشر مع الآلهة ! . " (28)

لا يعني إعجابه يحفظه الله بالمأساة اليونانية أنه معجب بتصويرها للعلاقة بين البشر والآلهة أنها علاقة صراع ، تلك الآلهةالتي تصورها الأسطورة اليونانية على شكل البشر . فمن يطالع الأساطير اليونانية يجد الآلهة لها صفات بشرية ، فهي تأكل ، وتشرب ، وتسرق ، وتقتل ، وتزني ، وتحسد ،،،الخ . ومجمع الآلهة موجود فوق قمة جبل أولمبوس بأثينا .

     ويشير إلي أن جوهر المأساة اليونانية - التي سينقدها بعد قليل – هو الصراع بين الآلهة و الإنسان . يقول : " الإنسان يريد أن يثبت وجوده .. يريد أن يبرز .. يريد أن يكون فاعلا مريدا .. يريد أن يبني ويصنع البطولات والأمجاد والخوارق ( يريد في الحقيقة أن يكون إلها ) والآلهة تغار من الإنسان ، فتسعى إلى وضع العقبات في طريقه ، وفي النهاية تحطمه حين يصر على عزيمته ويرفض الانصياع لكيد الآلهة .. وعندئذ تحدث المأساة !... أرأيت ؟! ... وأدبنا ليس فيه مأساة .. لأننا أمة سطحية لا طاقة لها بالوصول إلىالأغوار .. تعيش على هامش الحياة ولا تغوص في أعماقها .. ! . " (29)

نستنتج من ذلك أن الأستاذ محمد قطب يحفظه الله يري أن العرب و المسلمين أمة ترضي بالقشور ، أمة تعجز عن الوصول إلي لباب الأشياء . أما أمة اليونان فهي أمة تعمل عقلها في لباب الأشياء ولا ترضي بالقشور . أليست هذه النظرة لأمة العرب والمسلمين نظرة روج لها المتعصبين من المستشرقين ؟ ! . كذلكإلايتعارض هذا الإعجاب الشديد بالمأساة اليونانية مع انتقاده لها بعد ذلك ؟ ! . ولذلك لا أدري هل هو يحفظه الله معجب بالمأساة اليونانية أم أنه غير معجب بها ؟ ! .

ويحكي تجربته الشخصية مع الأدب الأوربي قديمه وحديثه ، التي تبين له منها أننا  عالة في دراساتنا الأدبية علي الغرب . يقول : " وقد كنت أَدْرُسُ الأدب الإنجليزي في الجامعة ، وكانت الأصول الإغريقية تدرس لنا باعتبارها المنابع التي كان يستقي منها الأدب الأوربي فترة من الزمن غير قصيرة ، وهي كذلك المعايير التي كان يستقي منها النقّاد نظرتهم إلىالأدب وتقويمهم له ، وكنت في الوقت ذاته أستمع إلى ما يلوكه " نقّادنا " عن الأدب العربي في جملته ، فأعجب في نفسي .. كيف يمسخ الناس إلى هذا الحد ؟! ... ليس دفاعاً عن الأدب العربي .. ما كان فيه وما لم يكن .. فليست هذه هي القضية ! القضية هي نحن : كيف دابت شخصيتنا إلى هذا الحد ، فلم نعد ننظر بعيوننا ، إنما نستعير عيون غيرنا لننظر بها إلى أنفسنا ؟! ... ولم أكن أديبا ولا ناقدا ... ولكن عنّت لي ملاحظة في أثناء دراستي للأدب الإنجليزي ، وهو نموذج للأدب الأوربي عامة ، مع وجود الفوارق الذاتية بطبيعة الحال بين شعب وشعب ، وأديب و أديب . " . (30)

 نستفيد من ذلك أن الأدباء والنقاد وغيرهم من المفكرين و المثقفين في مطلع القرن العشرين ذابت و امتزجت أفكارهم وعقولهم في ما هو غربي ، و هذا ما يرفضه الأستاذ محمد قطب يحفظه الله . و لعله يحفظه الله يقصد بذلك التيار التغريبيالذي كان موجودا في ذلك الحين ، وأقوي الأمثلة على ذلك هو الدكتور طه حسين يرحمه الله ، الذي انتقد كتابه " مستقبل الثقافة في مصر " كل من الأستاذ البنا يرحمه و كذلك الأستاذ سيد قطب يرحمه الله . ولكن السؤال : هل تغربت مصر فعلا ؟ ! . فأصبحنا نري بأعين غيرنا . أعتقد أن الإجابة بالنفي ، وأوضح مثال على ذلك كتابات الأستاذ عباس محمود العقاد التي يستقي منها المنظرون الثلاثة الكبار لجماعة الإخوان المسلمين . وسؤال آخر : ألايمكن أن يعتبر بعض شباب الباحثين و الدارسين و المثقفين هذا الإعجاب الشديد من الأستاذ محمد قطب يحفظه الله بالمأساة أو الأسطورة اليونانية دعوة للتغريب ؟ ! رغم أنه يحفظه الله ينتقد هذه المأساة أو الأسطورة .

       ويشير الأستاذ محمد قطب يرحمه الله إلي أن أوربا اعتمدت على هذه المأساة اليونانية في تفاعلها مع مبحث الألوهية ، وأنها كان لها تأثيرها العميق على مفهوم الإله في أوربا ، فقد استبدلت أوربا الطبيعة بإله الكنيسة . يقول : " تلك هي بذرة " المأساة " في حياة الإنسان كما تصورها الأسطورة الإغريقية ... وتلك – رعاك الله – هي التي تنقص الأدب العربي والأمة العربية !... ولقد تتبعت أثر الأسطورة الإغريقية في الأدب الأوربي بعد أن نزعت أوربا سلطان الكنيسة من حياتها ، وعادت إلىالأصول الإغريقية تستمد منها مفاهيم حياتها منذ عصر النهضة ، فوجدت عجبا !... عادت أوربا – في الأدب على الأقل – إلىالوثنية الإغريقية في فترة الرومانسية فعبدت " الطبيعة " إلها جديدا بدلا من اله الكنيسة الذي استعبدت باسمه الناس .. فنشأ في النفس الأوربية صراع بين الإنسان وذلك الإلهالجديد ! وتحدثوا في كتاباتهم عن " صراع الإنسان مع الطبيعة " وقالوا : " الإنسان يقهر الطبيعة " ! . " (31) ويرجع ذلك إلي ممارسات الكنيسة في العصور الوسطي الأوروبية المظلمة التي حاربت العلم والعلماء في ذلك الوقت . بالإضافة إلي احتكارها الدين الذي جعلته مجموعة من الأسرار .

      من هذا المنطلق يري الأستاذ محمد قطب يحفظه الله أن الاتجاه المادي في الغرب  قديم قدم النهضة الأوروبية بل له جذور أعمق من ذلك في بعض نظرياتالفلسفة اليونانية واتجاهات الحياة الرومانية قبل النصرانية . وقد قامت النهضة الأوروبيةعلى أساس معاد للدين .. لقد رجع الغرب إلىالأصول اليونانيةو الرومانية ليستمدوا منها أفكارها و آراءها ، الغرب الذي انسلخ من أصوله النصرانيةوالتي انقلب عليها أيضا . (32)

     وتبدو الأسطورة اليونانية بوضوح وجلاء في قصيدتيالشاعر اليوناني " هوميروس " ( حوالي 850 ق.م )" الإلياذة "و" الأوديسة " . وقصيدة " أنساب الآلهة " أو " أصل الآلهة " ، وقصيدة " الأعمال و الأيام "  للشاعر اليونانيهزيود ( 777 – 846 ق.م )التي تحكي  قصه الصراع بين الآلهة و البشر .

     ويشير الأستاذ محمد قطب يحفظه الله إلي قصة من قصص الصراع بين الآلهة و البشر . يقول : " إن فكرة الصراع بين البشر والإله ( أو الآلهة كما صورتها وثنية اليونان ) عميقة جدا في الأدب الغربي في جميع أطواره ... كانت واضحة جدا في الأساطير اليونانية ، وبخاصة أسطورة بروميثيوس سارق النار المقدسة ، التي تروي أن الإله زيوس – إله الآلهة – خلق الإنسان من قبضة من طين الأرض وسواه على النار المقدسة ( ترمز في الأسطورة إلىالمعرفة ) ثم أهبطه إلىالأرض وحيدا في الظلام ( يرمز الظلام إلىالجهل ) فأشفق عليه كائن أسطوري يسمى بروميثيوس ( لعله يرمز إلىالشيطان والله أعلم ) فسرق له النار المقدسة من الإله ( يرمز الى كون الإنسان بدأ يتعلم ) فغضب الإله على الاثنين معا ، " بروميثيوس " سارق النار المقدسة ، و" إيبيميثيوس " الإنسان الذي خلقه من طين الأرض ، فوكل ببروميثيوس نسراً أكل كبده طوالالنهار ، وفي الليل تنبت له كبد جديدة فيأتي النسر في الصباح ليأكل كبده طوالالنهار . هكذا في عذاب أبدي .. أما إيبيميثيوسالذي عجز الإله عن استرداد النار المقدسة منه ( يرمز ذلك إلى أن المعرفة لا يمكن سلبها من الإنسان إذا حصل عليها ) فقد أرسل إليه امرأة تسمى باندورا ( ترمز إلى حواء ) لتؤنسه في وحدته ، ولكنه أرسل معها صندوقا هدية ، فلما فتح الصندوق إذا هو مملوء بالشرور ! فقفزت الشرور من الصندوق وملأت أرجاء الأرض !! . " (33)

     وهذه القصة وغيرها انتقلت إليالغرب – كما ذكرنا سابقا – وكان لها تأثير عميق وواسع على إيمان الغرب باله لهذا العالم .بل إن هذه الأساطير أدت إلي ظهور الإلحاد في الغرب ويبدو ذلك بوضوح في المذاهب الفلسفة المعصرة الكائنة الآن في الغرب ، فكلها تقوم على اتجاه مادي ملحد .

     ولا يعني ذلك أن الأستاذ محمد قطب يحفظه الله مقتنع بهذه الأسطورة أو بغيرها من أساطير اليونان بعبارة أخري لا أقصد أنه يحفظه الله مقتنع بأن تكون العلاقة بين الإنسان والآلهة على هذا النحو . فنجده يرفض هذا التصوير لهذا العلاقة . يقول : " وهكذا تصور الأسطورة الإغريقية العلاقة بين الإنسان وبين الله ! فالعلم ليس نفحة ربانية أفاضها الله على الإنسان من فضله : ( وعلم آدم الأسماء كلها )[ البقرة : 31 ] ..( علم الإنسان ما لم يعلم )[ العلق : 5 ] ..( خلق الإنسان علمه البيان )[ الرحمن : 3 – 4 ]إنما هو مغتصب اغتصابا من الإله ! والإله – بدافع الغيرة ( نستغفر الله ) – لا يريد للإنسان أن يتعلم ، ولا أن ينتفع بعلمه ، فينتقم منه هذا الانتقام الفظيع ! .. " . (34)

الملاحظ هنا أن الأستاذ محمد قطب يحفظه الله يورد لفظ الجلالة " الله " و ليس " الإله أو الآلهة أو رب و أرباب "  وهو يعبر عن العلاقة بين الإنسان و بين " الآلهة " , وهذا ما نرفضه تماما لأنه من غير المعقول أن يرد لفظ الجلالة " الله " هنا لنعبر به عن علاقة الإنسان بـ " الآلهة " اليونانية  بل الأدق و الموضوعي أن نستخدم لفظ " الإله أو الآلهة أو رب و أرباب " لأن هذا الألفاظالأخيرة تستقيم مع السياق الأسطوري اليوناني أما لفظ الجلالة " الله " غير مناسب بالمرة مع السياق الأسطوري اليوناني . وهذا نفس ما وجدناه مع الأستاذ سيد قطب يرحمه الله .

     إن العقيدة الإسلامية بينت أن لله سبحانه و تعالي أسماء وصفات مستقاة من القرآن الكريم والسنة الشريفة  لا تتفق بالمطلق مع تصوير الآلهة  في الأساطير اليونانية ، فهذا توحيد رباني خالص مقابل تلك الوثنية والشرك الكائن في أساطير اليونانيين . يقول : " إن الاعتقاد بوجود آلهة أخرى مع الله – صغيرة أو كبيرة – فوق مخالفته للحقيقة الربانية ، يحدث سلوكا غير إيماني في واقع الأرض . فالسلوك دائما مرتبط بالتصور . وحين يتصور الإنسان أن هناك آلهة مع الله ، تشاركه في أي صفة من صفاته ، وتشاركه في تدبير الأمر و تصريفه ، فسيكون الولاء موزعا دون شك بين الله و بين هذه الآلهةالمدعاة ، والطاعة و الإتباع موزعين كذلك بين الآلهة وبين الله . " (35)

بالفعل هذا أمر لا يتفق مع العقل الصحيح والفطرة السليمة في إطار الإيمان بالله سبحانه و تعالي . وإن كان الأمر هو إنكار وجود الله فهذا يتفق مع هذا الاتجاه المادي الملحد .

المطلب الثاني : انتقالالفلسفة اليونانيةإليالغرب و آثارها على مفهوم الألوهية عندهم :

 بسبب انتقالالفلسفة اليونانية للغرب اله الغرب الإنسان وزعم – و هو كاذب – أن الإنسان أصبح هو " الإله " مما أدي إلي سقوط الغرب في تيه الجاهلية . يقول : " يقول جوليان هكسلي فيكتاب" الإنسان فيالعالم الحديث": إن الإنسان كان يخضع لله في الماضي بسبب عجزه وجهله، والآن وقدتعلم وسيطر على البيئة، فقد آن له أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل فيعصر العجز والجهل على عاتق الله، ومن ثم يصبح هو الله!  " ويتكرر على ألسنتهمأن الإنسان قد شب عن الطوق ولم يعد في حاجة إلى وصاية الله! أما تأليهالعقلفقد جاءت لوثته من بعث التراث اليونانيالذي كان يجعل العقل هو المحكّم في الأموركلها، سواء ما يدخل في اختصاصه أو مع يعجز عن إدراك كنهه ولكنه يقحم نفسه فيهإقحاما كقضية الألوهية، وما قاله فلاسفتهم في وصف الإله شاهد على تخبطاتهم في هذاالمجال..وكان اندفاع أوربا إلىالعقلانية محموما لا يقف عند الحد "المعقول" !  . كان انتقاما من قرون الحجر على العقل، الذي مارسته الكنيسة فيإبان سطوتها، فكان أول ما اتجهت إليه هذه العقلانية هو الكنيسة ومقولاتها.. لالمناقشتها في "تعقل" كما ينبغي للعقلانية السليمة أن تفعل، ولكن لتخطئتها والتنديدبها والدعوة إلى نبذها! وهكذا ولدت العقلانية الأوربية من لحظتها الأولى فيخصام مع الدين، لا لأن الدين –في حقيقته العلوية- خصم للعقل، ولكن لأن الكنيسة حجرتباسم ذلك الدين- على العقل أن يفكر، ومارست هذا الحجر بفظاظة تفوق الحد.. فهي إذنقضية "انفعالية" بحتة، وإن لبست زىالعقل لتستر ما هي عليه من اندفاع!. " (36)

     وأوضح مثال على ذلك هو عالم الفيزياء الإيطاليجليليو (1564 – 1642 م ) الذي توصل إلي أن الأرض تدور و لما كانت الكنيسة تري أنها ثابتة . قدمته الكنيسة للمحاكمة بتهمة الكفر و الجنون ، و لكنه تراجع عن رأيه مخافة أن يحكم عليه بالإعدام مثل الفيلسوف اليوناني سقراط ( 399 – 426 ق.م ) .

وبناءا على ما سبق أصبح أمام أهل الغرب إما يؤمنوا بالله جل جلاله أو يؤمنوا بهذه الآلهةالمتعددة . يقول : " بل حقيقة الأمر أنه علي الرغم من التسليم النظري لدي أولئك المشركين بأن الله هو " رب الأرباب " ، أو بلغة الوثنية اليونانية هو " كبير الآلهة " ..إلاأنه في السلوك الواقعي كان الولاء والطاعة لهذه الآلهة أكبر من الولاء والطاعة لله ، هذا إن بقيت ثمة طاعة لله من أي نوع بعد هذا الشرك القائم في الاعتقاد و السلوك : " . " وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث و الأنعام نصيبا ، فقالوا : هذا لله بزعمهم ، وهذا لشركائنا ! فما كان لشركائهم فلا يصل إليالله ! وما كان لله فهو يصل إلي شركائهم !! ساء ما يحكمون " [ الأنعام : 136 ] . " (37)

     وهذا الاعتقاد الغربي في " الله " ليس اعتقادا صحيحا فحسب بل هو امتداد للوثنية اليونانيةالشركيةالشعبية التي كانت منتشرة في بلاد اليونان .

   وإذا كانت الفلسفة اليونانية غزت العقل الغربي وامتزجت بهإلاأنها تسللت أيضا إليالديانة النصرانية علي يد القديس بولس . يقول : " وظهر لوقت معلم آخر عظيم يعده كثير من الثقات العصريين المؤسس الحقيقي للمسيحية هو شاول الطرطوسى أو بولس .. والراجح أنه كان يهوديالمولد، وإن كان بعض الكتاب اليهود ينكرون ذلك، ولا مراء في أنه تعلم على أساتذة من اليهود بيد أنه كان متبحراً في لاهوتيات الإسكندرية الهلينية .. وهو متأثر بطرائق التعبير الفلسفي للمدارس الهلنستية ، وبأساليبالرواقيين، كان صاحب نظرية دينية ومعلماً يعلم الناس قبل أن يسمع بيسوع الناصري بزمن طويل .. ومن الراجح جداً أنه تأثر بالمثرائية إذ هو يستعمل عبارات عجيبة الشبه بالعبارات المثرائية . ويتضح لكل من يقرأ رسائله المتنوعة جنباً إلى جنب مع الأناجيل أن ذهنه كان مشبعاً بفكرة لا تظهر قط بارزة قوية فيما نقل عن يسوع من أقوالوتعاليم،إلاوهى فكرة الشخص الضحية الذي يقدم قرباناً لله كفارة عن الخطيئة . فما بشر به يسوع كان ميلاداً جديداً للروح الإنسانية . أما ما علمه بولس فهو الديانة القديمة . ديانة الكاهن والمذبح وسفك الدماء لاسترضاء الإله " (39،38)

     ويشير الأستاذ محمد قطب يحفظه الله إلي أنه إذا كانت الكنيسة في حاجة ماسة للفلسفة اليونانية لحل مشاكلها العقدية فإن الإسلام ليس في حاجة لذلك . يقول : " وقد أصاب هذا الفكر المسيحية فأنشأ فيها ما يسمى " اللاهوت " وهو محاولة عقيمة للتوفيق بين خزغبلاتالكنيسة العقدية من التثليث ، والبنوة المزعومة لله سبحانه وتعالى ، وفكرة الخطيئةالأبدية ، والصلب والفداء.. الخ ، وبين الفلسفة الإغريقية. ولئن كان النصارى في محاولتهم لإضفاء العقلانية على تلك الخزعبلات التي لا يستسيغها العقل قد لجئوا إلىالفلسفة الإغريقية لعلها تعينهم ، فتخبطوا ، وفشلوا ، وظل لاهوتهم يحمل ذات الخلطالذي تحمله مقررات المجامع " المقدسة " ، فما كان المسلمون في حاجة إلى مثل هذا السلوك ، وهم الذين يحملون النور الصافي من منابعه الصافية المستغنية بذاتها عن كل مدد من خارجها ليس من طبيعتها. " (40)

إن الغرب الذي اتكأ على ميراثه الثقافي من الحضارة اليونانية فيما يتعلق بمعرفته بـ " الله " لم يجد حلول ناجعة في الفلسفة اليونانية عن هذا الموضوع . فلا توجد فلسفة استطاعت أن تسبر غور هذا الموضوع ، وإنما الإيمان وحده الذي يستطيع أن يصل بنا إلي معرفة " الله " . يقول : " ذلك مبلغ الإنسان من " العلم " ومبلغه من " الحقيقة ".ومع ذلك لا يعرف قدر نفسه، ويروح يشطح في الآفاق. يريد أن يعرف " الحقيقة " الكبرى. يريد أن يحيط بذات الله. فهل يقدر؟هب أن أحدا لم يمنعه ولم ينهه من التفكير.. فكيف يصل؟ بأية أداة وأية وسيلة؟ . العقل؟ . أو ليس العقل ذاته هو الذي قال للإنسان: إن المحدود لا يحيط بغير المحدود، والفاني لا يحيط بمكن لا يدركه الفناء. فيم إذن تسخير العقل فيما يقول العقل ذاته إنه مستحيل؟وهل وصل الناس إلى شيء حين سخروا عقولهم لذلك المبحث المستحيل؟ . هل وصلت " الفلسفة " في جميع أطوارها وجميع محاولاتها إلى حقيقة واحدة مستقرة تكشف للناس عن المجهول؟ أم باءت كلها بالفشل الجازم والعجز المحتوم! . وهل هذه التخبطات التي كتبها الفلاسفة في شأن الله حقيقة بأن ينظر إليها عاقل ويوليها شيئاً من اهتمامه؟ . وفيم هذا العناء كله؟! . ما وراء النطح في الصخرة التي تحطم الرءوس؟! . أيريد أن " يصل " إلىالله؟ . سبحان الله! فما له لا يصل عن الطريق المعبد المفتوح؟ . ما له يلف ويدور، ويعود " كالمخووت " الذي ركبه الخبال! . يريد أن يصل إلىالله؟ . أما يحس في أعماق نفسه السبيل؟ . أما يترك العنان للفطرة وهي تصل به إلى هناك؟ أما يدع روحه تحلق وحدها، عارفة طريقها إلىالنور الذي قبست منه وهي كائنة في علم الله منذ الآزال والآباد..؟ .الطريق هو الإيمان! . والفطرة تعرف الطريق! وما يحتاج الإنسانإلا إلى أن يدع فطرته على سجيتها. لا يكبلها بقيود مصطنعة من فلسفة منحرفة أو علم فطير. ولا يغشيها بركام الشهوات الغليظة والنزوات الهابطة التي تحجب شفافيتها وتمنع عنها النور. وهي وحدها تهديه إلىالله.. لأن الله فطرها على الهدى إليه! . " (41)

حقا إن الفطرة السليمة تهتدي للإيمان بالله سبحانه و تعالي ولكن التلوث الفكري و الأيديولوجي هو الذي يؤدي بالإنسان إليالإلحاد وهذا التلوث الفكري والأيدلوجي أصاب الإنسان الغربي بالفعل مما أدي به إليالإلحاد و الانحلالالخلقي و الفكري و الأيديولوجي .

ليست هذه المرة الأولي التي يعتمد فيها الغرب على العقل في تفسير مسالة ليست من طبيعته أن يناقشها ، فالاعتماد على التفسير العقلي عند الغرب قديم منذ فلاسفة اليونان ، واستمر إلي أن اعتنق الغرب النصرانية ، عندئذ بدأت تفسيرات جديدة للوجود تظهر إلي حيز الوجود . يقول : " ولقد ظلت الاتجاهات الفلسفية الإغريقيةالتي تمثل العقلانية قسما بارزا منها تسيطر علي الفكر الأوربي حتى جاءت المسحية الكنسية فغيرت مجري ذلك الفكر الأوربي عدة قرون. فلم يعد العقل هو المرجع في قضايا الوجود إنما صار هو الوحي كما تقدمه الكنيسة وانحصرت مهمة العقل في خدمة ذلك الوحي في صورته الكنسية تلك ، ومحاولة تقديمه في ثوب " معقول " . " (42)

وهذه كانت طبيعة العصور الوسطي الأوربية المظلمة حيث كانت الفلسفة في خدمة الدين ، وظهرت العديد من المحاولات للتوفيق بين الدين والفلسفة .

بعبارة أكثر دقة للتلفيق بين الدين والفلسفة بحيث تصبح الفلسفة خادمة للدين المحرف ، الذي أصبح مجموعة من الأسرار لا يعلمهإلارجالالدين فحسب . مما كان له أثرا عظيما على ثورة الناس على سلطة الكنيسة ، وقيام فريق من الباحثين والدارسين بحركة إصلاح للدين  , مما ترتب عليه جعل الدين قابع داخل أسوار الكنيسة ولا علاقة له بالحياة على الإطلاق بعبارة أخرى فصل الدين عن الحياة تماما  وهذا ما عرف بعد ذلك بالعلمانية .

ويضع الأستاذ محمد قطب يحفظه الله يده علي السبب الحقيقي الذي يكمن وراء الجاهلية الغربية ، وهو تنلقها من جاهلة إلي أخرى بما فيها الجاهلية اليونانيةالتي توهم الغرب أن تمدنه وتحضره لن يكونإلابالرجوع إليالفلسفة اليونانية . يقول : " وقد نشأت عن ذلك في الحياة الأوروبية والفكر الأوروبي مجموعة من الاختلالات...  فنقول إن هذه الاختلالات لم تنشأ كما تصور الفكر الأوروبي في مبدأ عصر النهضة من إهمالالفلسفة والعلوم الإغريقية والالتجاء إليالفكر " الديني " فلم يكن " الفكر الديني " من حيث المبدأ ، ولا إخضاع العقل للوحي هو مصدر الخلل في فكر العصور الوسطي في أوروبا ، إنما كان الخلل كأنا في ذلك الفكر الذي قدمته الكنيسة باسم الدين ، وفي إخضاع العقل لما زعمت الكنيسة أنه الوحي ، بعد تحريفها ما حرفت منه ، وإضافتها ما أضافت إليه ، ومزج كله بعضه إلي بعض وتقديمه باسم الوحي .والفلسفة الإغريقية التي ظنت أوروبا في عصر النهضة أن ضلالها في العصور الوسطي  كان بسبب إهمالها ، وأن العلاج هو الرجوع إليها والاستمداد منها ، لم تكن هي في ذاتها بريئة من الخلل ولا سليمة من العيوب ، ولا كانت في صورتها التي قدمت فلاسفة الإغريق القدامى زادا صالحا لحياة إنسانية مستقيمة راشدة ، علي الرغم من كل ما احتوته من إبداع فكري في بعض جوانبها .. وإنما ظل الفكر الأوربي في الحقيقة ينتقل من جاهلية إلي جاهلية حتى عصره الحاضر . فمن الجاهلية الإغريقية والرومانية، إلي جاهلية الدين الكنسي المحرف في العصور الوسطي ، إلي جاهلية عصر الإحياء ، إلي جاهلية عصر " التنوير " إلي جاهلية الفلسفة الوضعية .. إليالجاهلية المعاصرة . " (43)

الفلسفة الوضعية التي تقوم في الأساس على إنكار ما هو غيبي بالمطلق . و كذلك غيرها من الفلسفة مما أشاع في الغرب الإلحاد و إنكار وجود الله سبحانه و تعالي .

واستمر الغرب في التنقل من جاهلية إلي أخرى إلي أن جاءه الإسلام ، الإسلام الذي أيقظه من ثباته العميق . إلي أن قام الغرب بترجمة كتب المسلمين و خاصة كتب الفلسفة المنتسبة للإسلام بكل ما فيها من نظريات وآراء فلاسفة اليونانإلي جانب إضافات المتفلسفة المنتسبين إليالإسلام . يقول : "فوصل ذلك ما بينها وبين تراثها الذي كانت قد فقدته أو نسيته في عصور الظلام الكنسي . ولكن القول بأن هذا هو الذي أيقظ أوربا ، هو تبجح المغرور منكر الجميل ، الذي لا يريد أن يعترف بالحقّ ، والحقّ محيط به من كل جوانبه ! . فلقد كان التراث الإغريقي الروماني الأصلي قائماً موجوداً في متناول أيدي الأوربيين في عصور الظلام ، فلا هو أيقظهم من سباتهم ، ولا هم مدوا أيديهم إليه ليتناولوه ! . إنما الذي أيقظهم هو الإسلام . " (44)

وما نقل من كتب العلم الطبيعي التي ترجمها الغرب إلي لغاته في بداية عصر النهضة الأوربية مما كان له الأثر الكبير والواضح في قيام الحضارة الغربية الحديثة و المعاصرة .

وعندما تلقي الغرب تراثه المفقود من المسلمين قلده تماما حيثإلهالعقل مثلما فعل فلاسفة اليونانيين ، وجعلوا العقل هو المهين والمسيطر على الوحي . وهذا بطبيعة الحال أمر غير مقبول في العقيدة الإسلامية التي تعطي العقل دوره الحقيقي فيما يتلاءم مع طبيعته . يقول : " اشتهرت الجاهلية الإغريقية بجهد فكريّ ضخم ، متمثل في " الفلسفة "و" المنطق " ، معنيٍّ بالتفكير في الكليات ، واستنباط النظريات ، ووضع القواعد التي يقوّم على أساسها الفكر . وهذه - في ذاتها - أدوات نافعة ، بل هي ضرورية للحياة الفكرية السليمة ، ولا يستطيع الفكر أن يرتقي الى آفاقه العليا بغير الالمام بتلك الأدوات واستخدامها في مجالها الصحيح . ولكن المأخوذ على تلك الجاهلية ليس هو " إعمالالعقل " إنما هو ما يمكن أن نسميه " عبادة العقل " ، أي جعله هو المحكم في الأمور كلّها ، وهو المرجع الذي تنتهي إليه " المعرفة " من كلّ جوانبها - وهو ما يبدو واضحاً في الجاهلية المعاصرة بشكل بارز .إنّ العقل أداة مفيدة دون شك ، وقد عظّمه الإسلام، وجعله من كبريات النعم التي منَّ الله بها على الإنسان ، وأسند إليهم فهم الوحي، واستنباط أحكامه ، والنظر في مجالات تطبيقه ، كما أسند إليه أموراً أخرى مهمة في حياة المسلم . ولكنه لم يجعله هو المرجع الوحيد ، ولا المرجع الأعلى ، لأن الله الخالق - سبحانه - يعلم حدود هذه الأداة ، ويعلم المجالات الصالحة لعملها .. و يعلم أنها - وحدها - لا تصلح أن تكون حكماً في الأمور التي تتعرض لهوى النفس ، أو لأوهام النفس .. كما أنها محدودة بحدود القدرة البشرية .. أو فلنقل : العجز البشري ! . " (45) لقد جعل الإسلام للعقل حدودا يقف عندها و هو عالم الشهادة فلا يجوز له أن يتجاوز هذا العالم لأنه إن تجاوزه للغيبيات فلن يصل إلي شيء مطلقا بل سيدخل في حيرة و اضطراب . وهذا ما وصل إليه الغرب و هو أنه مجد العقل البشري وعبده وإلهه .

ويستطرد في توضيح المقصود بتأليهالعقل أو عبادته و خاصة في مناقشة مسالة " الألوهية " ، التي حاول العقل الغربي قديمه و حديثه أن يثبر غورها و حقيقتها لكنه لم يصل إلي شيء يذكر بصدد حقيقة الألوهية ، وعلى العكس إن  كان العقل الغربي حاول أن يستدل علي الألوهية من الآثار البادية لله في الكون لاستطاع أن يصل إلي معرفة الألوهية . لكنه تكبر العقل الغربي وغروره . يقول : " كانت العقلانية الإغريقية لونا من عبادة العقل وتأليهه ، وإعطائه حجما مزيفا أكبر بكثير من حقيقته ، كما كانت في الوقت نفسه لونا من تحويل الوجود كله إلي " قضايا " تجريدية مهما يكن من صفائها وتبلورها فهي بلا شك شيء مختلف عن الوجود ذاته ، حركته الموارةالدائمة ، بمقدار ما يختلف " القانون " الذي يفسر الحركة عن الحركة ذاتها ، وبمقدار ما تخلف البلورة عن السائل الذي نتجت عنه .. قضايا تعالج معالجة كاملة في الذهن بصرف النظر عن وجودها الواقعي ! وبصرف النظر عن كون وجودها الواقعي يقبل ذلك التفسير العقلاني في الواقع أو لا يقبله ، ويتمشي معه أو يخالفه ! . وكان أشد مايبدو فيه هذا الانحراف معالجة تلك الفلسفة  لقضية "الألوهية"و" قضية " الكون المادي وما بينهما من علاقة ويتشعب هذا الانحراف شعبا كثيرة في وقت واحد . فأول انحراف هو محاولة إقحامالعقل فيما ليس من شأنه أن يلم به فضلا عن أن يحيط بكنهه في قضية الذات الإلهية , فمن باب احترام العقل لذاته ومعرفته لطبيعة وحدود مقدرته ، وما كان لهذا العقل أن يقتحم ميدانا ليس بطبيعته مؤهلا لاقتحامه ، ولا قدرة له علي الخوض فيه . وإن المحدود لا يتسن له أن يحيط بغير المحدود ، والفاني لا قدرة له علي الإحاطة بحقيقة الأزل والأبد ، حيث لا بداية ولا نهاية ولا حدود . إنما يستطيع العقل أن " يتصور " ذلك لونا من التصور ، وأن يدرك أنه يمكن أن يوجد علي هذه الصورة .. أما أن يحيط " بكنهه " علي أي نحو من الأنحاء فقضية أخري خارجة عن نطاق العقل ، وهي التي نقول إن احترام العقل لذاته ومعرفته لطبيعته وحدود مقدرته هي التي توجب عليه أن يتجنب الخوض فيها لأنه لن يصل فيها إليشيء  له اعتبار . وليس معني هذا أن" الدين " كله أمر خارج عن نطاق العقل ، أو أن الاعتقاد في وجود الله ومعرفة صفاته أمر لا نصيب فيه للعقل . كلا .. إنما يدخل العقل إلي هذا الميدان من باب الذي هو مؤهل بطبيعته أن يدخل منه ، لا من الباب الذي لا يقدر علي فتحه ، والذي يضل فيه لو اقتحمه بغير أداته ! يدخل من باب ادارك آثار القدرة الإلهية والاستدلال من هذه الآثار علي وجود الله ، ومعرفة صفاته التي تفرد بها دون الخلق ، ولكن لا يدخل من باب " الكنه " الذي لا يقدر عليه ولا يصل إلي نتيجة فيه . وحين أصرتالفلسفة اليونانية ومن تبعها بعد من فلاسفة النصارى وفلاسفة المسلمين أن يقتحموا باب الكنه بمفتاح العقل  فقد وصلوا جميعا إلي ذلك التخبط الذي يملأ كتب الفلسفة كلها من أول التاريخ إلي آخر التاريخ ! . " (46)

     وهذا مشاهد بوضوح و جلاء في كتابات أمثال : أفلاطون و أرسطو ، و الفارابي ، و المتكلمين ، و الفلاسفة المحدثين و المعاصرين في الغرب و غيرهم . الذين حاولوا بكل ما أوتوا من قدرة عقلية سبر غور الذات الإلهية . وكل محاولاتهم باءت بالفشل بسبب اعتمادهم على العقل أحيانا و تأويلهم النصوص الدينية أحيانا أخرى بما يتفق مع العقل .

ويضرب الأستاذ محمد قطب يحفظه الله مثالا على تأليهالعقل عند فلاسفة اليونان ، فيذكر أن أرسطو الفيلسوف اليونانيالمشهور عندما قام بتحديد صفات المحرك الأول حدد هذه الصفات بمعاير عقله هو . يقول : " لا جرم أن تجد أرسطو ، الذي يعتبره دارسو الفلسفة أعظم " عقل " في التاريخ القديم ، يصف إلهه بعقله علي هذه الصورة : يقول " العقاد " في كتاب " حقائق الإسلام وأباطيل خصومه " : " ومذهب أرسطو في الإله أنه كائن أزلي أبدي مطلق الكمال لا أول له ولا أخر ولا عمل له ولا إرادة . منذ كان العلم طلبا لشيء والله غني عن كل طلب ، وقد كانت الإرادة اختياربين أمرين ، والله قد اجتمع عنده الأصلح والأفضل من كل كمال فلا حاجة به إليالاختيار بين صالح وغير صالح ولا بين فاضل ومفضول وليس مما يناسب الإله في رأي أرسطو أن يبتدئ العمل في زمان لأنه أبدي سرمدي لا يطرأ عليه طارئ يدعوه إليالعمل ، ولا يستجد عليه من جديد في وجوده المطلق بلا أول ولا آخر ولا جديد ولا قديم ، وكل ما يناسب كماله فهو السعادة بنعمة بقائه التي لا بغية وراءها ولا نعمة فوقها ولا دونها ، ولا تخرج عن نطاقها عناية تعنيه . " (47)

وهذا نفس ما ورد عند الأستاذ سيد قطب يرحمه الله عندما تحدث عن مسالة الألوهية عند  أرسطو ، ونجده يحفظه الله يورد أيضا لفظ الجلالة " الله " هنا مثلما فعل الأستاذ سيد قطب يرحمه الله ، واستخدام لفظ الجلالة " الله " هنا غير دقيق بالمرة و الأفضل استخدام لفظ أو تعبير " المحرك الأول " وهو نفس تعبير أرسطو ، و كذلك هو مناسب أكثر للسياق .

ويستطرد موضحا صفات المحرك الأول عند أرسطو . يقول : " فالإلهالكامل المطلق الكمال لا يعنيه أن يخلق العالم أو يخلق مادته الأولي وهي " الهيولي " .. ولكن هذه " الهيولي " قابلة للوجود يخرجها من القوة إليالفعل شوقها إليالوجود الذي يفيض عليها من قبل الإله ، فيدفعها هذا الشوق إليالوجود ، ثم يدفعها من النقص إليالكمالالمستطاع في حدودها ، فتتحرك بما فيها من الشوق والقابلية ، ولا يقال عنها إنها من خلقه اللهإلاأن تكون الخلقة علي هذا الاعتبار .. ويعلق العقاد بصدق علي هذا التصور فيقول : " كمال مطلق لا يعمل ولا يريد ... " أو كمال مطلق يوشك أن يكون هو و العدم المطلق علي حد سواء . والانحراف الثاني هو تحويل الموضوع كله إلي قضايا فلسفية ذهنية بحته ، تبدأ في العقل وتنتهي في العقل ، ويثبت ما يثبت منها وينفي ما ينفي بالعقل ، فلا تمس الوجدان البشري ، ولا تؤثر في سلوك الإنسان  العملي ، فتفقد قيمتها في واقع الحياة .. " (48)

نتفق مع الأستاذ محمد قطب يحفظه الله في رفض هذا التصور الأرسطي لكونالوجود . ولكنننا لا نتفق معه يحفظه الله في استخدامه لفظ الجلالة " الله " في هذا المكان ، وكان من الأفضل أن يستخدم مصطلح " الإله " أو المصطلح الأرسطي  " المحرك الأول " ليعبر عن خلق هذا الوجود . وخاصة أنه أشارإلي أن الحديث في هذا الموضوع عند أرسطو يبدأ من العقل وينتهي إليالعقل . فتفسير أرسطو لكون الوجود تفسير عقلاني محض لا يرقي مطلقا للتصور الإسلامي لخلق الله سبحانه و تعالي لهذا العالم .

ويعقب الأستاذ محمد قطب على عمل أرسطو بالنسبة لمسالة " الألوهية " بأن ما فعله أرسطو أنه أقحم العقل في مجال ليس مجاله إنما هذا مجالالوحي الرباني . يقول : "  إن موضوع الألوهية ليس موضوعا فلسفيا بالصورة التي تتناوله بها الفلسفة ، إنما هو موضوع العقيدة " والفرق بين الفلسفة والعقيدة أن الفلسفة تخاطب الذهن وحده ، تبدأ من هناك وتنتهي هناك .. ولا تتجاوز الذهن إليالواقع الحي الذي يعيشه الإنسان في الأرض , أما العقيدة فتخاطب الكيان الإنساني كله / عقله وجسمه وروحه وكل شيء فيه . إنها لا تسكن كما تسكن الفكرة في الذهن ، ولا تتحرك حول نفسها في الفراغ كما تتحرك الفكرة في الذهن أن تحركت ، إنما هي دائما تدفع الإنسان إلي " سلوك " معين ينبثق منها ويتناسق معها ، وإلي " حركة " معينة وجدانية وسلوكية وفكرية في عالم الواقع . ومن ثم لم تكن الفلسفة قط من وسائل الهداية للبشرية ! إن غاية ما يمكن أن تصل إليه هو نوع من المتعة العقلية عند هواة هذا اللون من المتعة ، وهم بطبيعتهم محدودون ولكنها وحدها لم تنشئ قط أمة ولم تحرك أمة ، والقليلون الذين يجدون فيها المتعة العقلية ينتهي بهم الأمر إلي هذا المتاع الذاتي ولا زيادة . أو أن تحركوا فلا تزيد حركتهم علي محاولة إحداث هذه المتعة عند مجموعة قليلة حولها . ولا زيادة إنها لا تهدف إلي إحداث " سلوك" معين في واقع حياة الناس ، ولا تملك ذلك ونظرة سريعة إلي واقع المجتمع الإغريقي الذي عاش فيه أولئك الفلاسفة والمفكرين الكبار تبين هذه الحقيقة بوضوح ، فما كانت هناك صلة علي الإطلاق بين " أفكار " هؤلاء الفلاسفة " و " واقع " الناس هؤلاء يتكلمون في " الحكمة " وفي السلوك الإنساني " كما ينبغي أن يكون " والمجتمع غارق في كل أنواع الفسق والرذيلة والفساد والظلم ولا يعني نفسه بشيء مما يملأ " أذهان " أولئك المفكرين . " (49)

إذا كانت هذه وجهته حفظه الله تجاه مجالالفلسفة عامة والفلسفة اليونانية خاصة وكذلك مجالالعقيدة ، فإنه حفظه الله بالتالي يري أنه لا يمكن التوفيق بين الدين و الفلسفة ، الدين الذين يمثل الوحي الإلهي والفلسفة التي تمثل العقل المتشبع بالضلالات والمفاسد والشركيات . وفي مقابل ذلك يري أهل السنة والجماعة أنه يمكن التوفيق بين الدين الصريح والعقل الصحيح .

إن العقيدة تخاطب وجدان الإنسان وروحه وعقله أما  الفلسفة فهي تخاطب في الإنسان عقله فحسب ، ولما كان الإيمان محله القلب كان خطاب العقيدة لقلب الإنسان شديد التأثير علي عكس الفلسفة التي الهت العقل . يقول : " وموضوع الألوهية هو أصلا موضوع عقيدة .. أو هو موضوع " العقيدة " باعتبار الإنسان كائنا معتقدا بطبعه ، عابدا بفطرته ، حتى أن ضلت هذه الفطرة عن طريقها السوي لسبب من الأسباب وليس معني ذلك أنه محرم علي الفلسفة أو الفكر أن يتناوله . ولكنه حين يتناوله علي النحو الذي تناولته به الفلسفة الإغريقية العقلانية ، وتبعها فيه فلاسفة النصارى فيما يعرف " باللاهوت" وفلاسفة المسلمين فيما يسمي " الفلسفة الإسلامية " أي التناول الذهني التجريدي الخالص ،يكون قد انحرف به عن طريقه الأصيل ، وحوله إلي " كلام " و " أفكار" لا تنشئ سلوكا واقعيا ، ولا تغير شيئا في حياة الناس فيتحول إلي زبد لا ينفع. ( فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) [الرعد 13/17] " (50)

     يتضح مما سبق أن الغرب ترك الحبل على الغارب للعقل بالنسبة لموضوع " الألوهية " وكانت النتيجة المحتومة هي أن رفض الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالي أي أصبح الغرب ملحدا . يقول : " لقد حكّمت الجاهلية المعاصرة عقلها في قضية الألوهية، فأدت بها عقلانيتهاالتجريبية إلى نفي وجود الله! لمجرد أن الله سبحانه وتعالى " لا تدركه الأبصار "، ولا يمكن إدراك وجوده بتجربة علمية معملية ، على طريقة الكون الماديّ .. وحقيقة أن الجاهلية المعاصرة حوّلت عقلانيتها عن البحث فيما وراء الطبيعة ، وكان هذا تحولاً صحيًّا سليماً في ذاته ، لأن عقلانية الإغريق في هذا المجال لم تُفض إلى علم نافع ينفع البشرية في دنياها ولا آخرتها، ولكن حكمها - بعقلانيتها - بنفي وجود الله لمجرد أن قضية الألوهية لا تخضع للتجربة المعملية ، كان خطلاً ضخماً هوى بالبشرية في حمأة الإلحاد، وما صاحبه من انتكاس القيم المعنوية كلّها إلىالحضيض . وخسرت البشرية من وراء هذا الانحراف أضعاف أضعاف ما كسبته من الخيرالجزئي الذي حقق توجه العقلانية إليالحلول العملية لمشكلات الحياة الواقعية، والتقدم العلمي في شتى المجالات . " (51)

نعم ، لقد خسر الغرب كثيرا في مجالالروحانيات والغيبيات مع مقابل ما حققه من مكاسب في مجالالعلم و العقل و المادة .

     وإذا ما انتقلنا من مسالة " الألوهية " إلي مسالة " خلق الكون " نجد نفس الجاهلية ، فقد زعم الغرب أن الطبيعة خالقة أي الهوا الطبيعة . يقول : " وحكّمت الجاهلية المعاصرة عقلها في قضية الخلق - بعد نفيها لوجود الله سبحانه وتعالى، أو في القليل نفي هيمنته وتدبيره لشئون الكون - فأدت بها عقلانيتهاإلى أسطورة ضخمة ليس لها واقع علمي، هي " الطبيعة الخالقة " من ناحية، و " الخلقالذاتي " من ناحية أخرى.. وصارت هذه الأسطورة " علماً " يتداوله " العلماء " بغير برهان علمي، في الوقت الذي يرفضون فيه ردّ الأمور إلىالله بحجة عدم وجود برهان علمي على وجوده أو تدبيره لشئون الخلق! . وأعجب إن شئت لسريان هذه الأسطورة في عصر " العلم "! عجب أكثر من أن " العالم " إذا ذكر الله في البحث العلمي سقط من أعين " العلماء "! وصار مضغة في أفواههم يتندرون بجهله وسذاجته، وعدم علميته، وعدم موضوعيته، وتعلقه " بالغيبيات "، فإذا ذكر " الطبيعة " رفعوه بذكرها، وخروا لها ساجدين!! وصدق الله العظيم:( و إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة و إذا ذكر الذين دونه إذا هم يستبشرون ) [الزمر: 45].والحق أن هذه الأسطورة تستحق منّا وقفة بالنظر إلى مدى توغلها في الجاهلية المعاصرة، وتأثيرها على كثير من مجاري الفكر ومجاري السلوك، مع عدم استنادها إلى شيء على الإطلاق! . "(52) علي هذا النحو أله الغرب اليومالطبيعة على غرار فلاسفة اليونانالذين الهوا الطبيعة قبلهم ، فتزعم الأسطورة اليونانيةالقديمة أن العالم مملوء بالآلهة .

وينتهي الأستاذ محمد قطبإلي أن الجاهلية الغربية الآن ورثت جاهليتها من بلاد اليونان والرومان . ورغم هذه الجاهلية الروحيةإلاأنهم أحرزوا تقدما كبيرا في شؤونهم المادية . يقول : "  فلقد جمعت هذه الجاهلية في أطوائها مواريث مختلفة وتأثرات مختلفة، جعلت منها في النهاية صورتها الحاليةالتي يمكن تلخيصها في كلمتين: تقدم هائل في العلوم المادية والتكنولوجيا والعمارة المادية للأرض، وانتكاسة هائلة في الجانب الروحي والقيم المعنوية اللازمة لحياة الإنسان.لقد ورثت من الجاهلية الإغريقية عبادة العقل، وعبادة الجسد في صورة جمال حسيّ، والروح الوثنية في النظر إلىالكون والحياة والإنسان، وبصفة خاصة علاقة الصراع بين البشر والآلهة، حيث الآلهة تريد تدمير الإنسان، والإنسان يريد أن يُثبت ذاته بالتمرّد على الآلهة.وورثت من الجاهلية الرومانية عبادة الجسد في صورة شهوات حسيّة، وتزيين الحياة الدنيا لزيادة الاستمتاع الحسيّ بها إلى أقصى الغاية، ومن ثم الاهتمام البالغ بالعمارة المادية للأرض. " (53)

وهذه الدجما الغربية تختلف كل الاختلاف عن ما رسخ في قلوب و عقول المسلمين على مدار تاريخهم من عقيدة ربانية إلهية كائنة في القرآن الكريم و السنة الشريفة .

     وإذا كان المسلمون استفادوا من العلم لتسخير هذا الكون لخير الإنسان في الدنيا و الآخرة فالأمر كان على العكس في الغرب الذي دخل فيه العلم في صراع مع الدين المحرف و الذي يضاد العلم . مما كان له أثرا بالغا على حياتهم الروحية أعني مما دفعهم دفعا للعودة للجاهلية اليونانية بكل ما تطرحوه من علاقة بين " الله " والإنسان . يقول : " والرغبة في " المعرفة " والرغبة فيالتفاعل مع الكون المادي واستخدام ثمار المعرفة في تيسير الحياة وتحسينها وتجميلها فطرة كذلك. فالإنسان مفطور على حب " المتاع " على السعيإلى تحسين وسائل المتاع حتى ترتفع من الضرورات إلىالحاجيات إلىالزينة. فما الذي يجعل إحدى النزعتين في موقف الحرب والتضاد مع النزعة الأخرى؟ . إنما فعلت الجاهلية الحديثة ذلك في أوروبا  لأن الدين الممسوخالذي قدمته الكنيسة كان يحارب العلم ويضطهد العلماء ويحرقهم أحياء فيالأفران  لأنهم نادوا بحقائق علمية على غير هوى الكنيسة. فكان رد الفعل الجاهلي هو نبذالدين جملة - بدلا من تصحيحه - وجعل العلم منابذا للدين. ولكن ذلك لم يكن هو السبب الأوحد فيالحقيقة. فإن أوربا حين نزعت عنها لباس الدين علماؤها ومفكروها أولا ثم جماهيرها ودهماؤها بعد ذلك  رجعت إلىالتراث الإغريقيالروماني تستمد منه مناهج حياتها الجديدة.. فانبعث فيها من الجاهلية الإغريقية ذلك العداء القديم بين " الإنسان " وبين " الله ". " (54) بل بين الإنسان و بين الإله وليس " الله " على نحو ما ذكرنا آنفا .

     إن الغرب الآن يعيش في جهالة ما بعدها جهالة ويرجع ذلك إلي ما ورثه من الفلسفة اليونانيةالخبيثة ، التي صورت للإنسان الغربي أنه أصبح إلها , والإسلام وحده هو القادر على أن يخرجه من هذا الظلام الدامس . يقول : " فما أحوج العالم اليومإلىالإسلام، كما كان محتاجاًإليه قبل ألف وثلاثمائة عام! ما أحوجه إليه ينقذه من الخرافة، ويرفع عقله وروحه من التردي فيها، سواء كانت الخرافة هي عبادة الأوثان، أو عبادة العلم على الصورة الزريةالتي يمارسها أهل الغرب "المتقدمون". بل ما أحوجه إليه يعيد السلم بين الدين والعلم، ليعيد الاستقرار إلىالكائن البشري الذي تمزقه عقائد الغرب الفاسدة، فتفصل بين عقله ووجدانه، وتخالف بين حاجته إلىالعلم وحاجته إلىالله! . ما أحوجه إليه يزيل بقية الروح الإغريقية الخبيثة،التي ورثتها أوربا الحديثة من تاريخها القديم في عصر الإحياء، والتي كانت تصور العلاقة بين البشر والآلهة علاقة خصام وصراع، وتجعل كل سر من أسرار المعرفة أو كل خير يتوصل إليه بشر، شيئا منتزعا من الآلهة قسراً عنهم، لو استطاعوا لمنعوه، وبذلك يعتبر كل كشف علمي انتصاراً على هؤلاء الآلهة وتشفيا فيهم! . تلك الروح الخبيثة ما تزال في العقل الباطن الأوربي والغربي عامة، تتبدى حيناً في بعض تعبيراتهم مثل "قهر الإنسان للطبيعة" أو "العلم ينتزع الأسرار".. الخ. وتتبدى في طريقة إحساسهم بالله، وشعورهم بأن عجز الإنسان هو - وحده- الذي يضطره للخضوع لله، فكل كشف علمي يتوصل له الإنسان يرفعه درجة، ويخفض الإله درجة، وهكذا حتى يعرف الإنسان كل أسرار العلم، ويخلق الحياة (وهو الحلم الذي يخايل "للعلماء" اليوم) وعندئذ يتخلص نهائيا من الخضوع لله، ويصبح هو الإله! . ما أحوج العالم للإسلام اليوم، ينقذه من هذه الضلالة، ويرد لروحه الأمن والسلام. ويشعره بعطف الله عليه ورحمته، وأن كل معرفة يصل إليها أو خير يصيبه إنما هو منحة من الله يمنحها له،وهو راض عنه - مادام يستخدمها في خير المجموع- وأن الله في الإسلام لا يغضب على الناس حين " يعرفون " ولا يخشى منافستهم له سبحانه! وإنما يغضب عليهم فقط حين يستغلون معرفتهم في الضرر والإيذاء.وما أحوج الناس إلىالإسلام اليوم ينقذهم من الطغاة والجبارين كما كان ينقذهم منهم قبل ألف وثلاثمائة عام! . " (55) ومع الأسف الشديد فأنه يوجد نفر من بني جلدتنا يقلد الغرب في هذا الأمر ، أقصد أنه يعلي من شأن الفلسفة و العلم ، ويزعم – على نحو ما يدعي الغرب – أن تحضر العرب و المسلمين ليس في الإسلام إنما يكون في تقليد الغرب في كل ما توصل إليه من فلسفة وعلم .

تعقيب :

1 – يري أن الفلسفة ليست عربية ولا إسلامية بل أنها صناعة غربية ، وعندما نقلت إلي العرب والمسلمين كانت السبب الرئيس إلي جانب أسباب أخرى في ظهور كثير من البدع و الأهواء والمفاسد و الضلالات والشركيات في البيئة العربية الإسلامية كالاعتزال و الإرجاء .

2 – لم يكن العرب و المسلمون في حاجة للفلسفة اليونانية بل أن جماعة منهم فحسب الذين انبهروا بهذه الفلسفة ، وهم الذين قلدوها ، وراحوا يلفقوا بينها و بين العقيدة الإسلامية مما ترتب عليه ظهور اللاهوت الإسلامي " علم الكلام " والفلسفة المنتسبة للمسلمين والتصوف المنتسب للمسلمين .

3 – أضاف العرب والمسلمون كثيرا من الإسهامات والمنجزات والمكتشفات العلمية في مجالالعلوم الطبيعية إلي ما تركه اليونانيون . إلي جانب تصحيحهم العديد من الأخطاء التي وقع فيها اليونانيون في مجالالعلوم الطبيعية . بالإضافة إلي أفضل ما ورثه الغرب عن العرب والمسلمين و هو منهج البحث العلمي التجريبي .

4 – استفاد الغرب من التراث الإسلامي حيث أخذوا عن العرب والمسلين منهج البحث العلمي الرصين . ونقلوا عنهم أيضا تراثهم القديم أعني التراث اليونانيالذي حافظ عليه العرب والمسلمين .

5 – على الرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يوجد عند الغرب الآنإلاأنهم ورثوا عن اليونانيين علاقة الإنسان بالآلهة ، واعتبروا أن كل تقدم يحرزه الإنسان الغربي يكون منتزعا من الآلهة ، ولقد أحلوا مذاهب فلسفية و نظريات علمية محل الإله .

6 – إن العقيدة الصحيحة هي العقيدة الربانية التي تتفق مع الفطرة الإنسانية التي يشعر معها الإنسان في كل زمان ومكان بالطمأنينة و السكينة وهذا ما يجده كل معتنق للإسلام . مقابل الإلحاد والصراع مع الآلهةالتي تضاد الفطرة الإنسانية وبسببها يشعر الإنسان بالتعاسة والقلق .

7 – لم يخف إعجابه بالمأساة اليونانية و بالفلاسفة اليونانيين ، وكذلك لم يشر إلي أن نصارى السريان هم الذين نقلوا الفلسفة اليونانيةإليالعرب و المسلمين . ولم نجد عنده أثرا يذكر عن موقف السلف الصالح وأهل السنة و الجماعة من الفلسفة اليونانية ، وهذا أمر يثير الدهشة و التعجب .