من مظاهر علم الاستغراب
موقف الإخوان المسلمين من الفلسفة
الفلسفة كما نعلم هي محبة الحكمة ، و
الفيلسوف هو محب الحكمة ، و الفلسفة ترجع نشأتها – كما يري نفر من الباحثين - إلي القرن السادس قبل الميلاد على أيدي فلاسفة
اليونان ، فأول فيلسوف عرفته الدنيا هو ، الفيلسوف اليوناني طاليس الذي زعم أن
المبدأ الأول للوجود هو الماء . و الفلسفة اليونانية بذلك هي – عند هذا الفريق من
الباحثين – هي أول فلسفة ظهرت للوجود ، و نعني بالفلسفة اليونانية الفلسفة الغربية
القديمة ، فكما نتحدث نحن كمسلمين عن تراثنا في العصور الأموية و العباسية ، فكذلك
أهل الغرب عندما يتحدثون عن ماضيهم و حضارتهم القديمة يشيرون إلي الحضارة اليونانية . فالفلسفة اليونانية إرثهم
و تراثهم الذين يتباهون به ، و يعتبرونها أصل الفلسفات و الحضارات و المدنيات على
مر العصور ..
و للإخوان المسلمين موقف بعينه من الفلسفة
اليونانية ، و سينحصر حديثنا هنا عنها من قبل أحد منظري الإخوان المسلمين و هو
الأستاذ "محمد قطب " - حفظه الله- ، الذي ترك كثيرا من المؤلفات التي أشار فيها
إلي الفلسفة اليونانية من قريب و من بعيد . و سنقتصر هنا أيضا على مؤلفة ( جاهلية القرن
العشرين ) .
أشار الأستاذ " محمد قضب " – حفظه الله - في مؤلفة ( جاهلية القرن
العشرين ) إلي أن الحضارة اليونانية عامة أحد الروافد الرئيسية للحضارة الأوروبية
، يقول : " الجاهلية اليونانية و الجاهلية الرومانية هما الأساس الحقيقي
"للحضارة الأوروبية المعاصرة ! ذلك ما تعترف به المصادر الأوربية ذاتها ، و
إن كانت بطبيعة الحال لا تسميها جاهلية ، و إنما تسميها حضارة ." و يبرر
الأستاذ / محمد قضب – حفظه الله - موقفه
من تسمية الحضارة اليونانية بـ "الجاهلية اليونانية " بسبب ما يوجد في
التفكير اليوناني من انحرافات انتقلت منها إلي الجاهلية الأوربية المعاصرة ، يقول
: " و ما من شك في أنه – يقصد الحضارة اليونانية – "جهدا" بشريا
رائعا ، في تعدد جوانبه و اتساع آفاقه .. و ما بنا أن نبخس الناس أشياءهم ! و ما
بنا أن نحاسب الإغريق علي جوانب نقص في تفكيرهم أو جوانب انحراف .. فقد اجتهدوا
جهدهم . و لم يكن لهم من معلم يقوم انحرافهم و يرد إلي الصواب فيه . و لا كان في
وسعهم – بمفردهم – أن يقوموا هذا الانحراف .. و إنما نريد فقط – بغير لوم موجه إلي
أحد – أن نبين جوانب الانحراف في التراث اليوناني – و الانحراف سمة دائمة من سمات
الجاهلية – لأنها تفيدنا في تبين ملامح الجاهلية الحديثة ، التي تستمد غذاءها من
ذلك التراث ." ,
و ينبه الأستاذ / محمد قضب - حفظ الله - إلي أن أهل الغرب بالغوا في تقيمهم لتراثهم
اليوناني ، فقد جعلوه أعلي شأنا من الوحي الإلهي ، يقول " أوروبا – في
جاهليتها الحديثة – قد بالغت مبالغة شديدة في تضخيم التراث اليوناني – تعصبا منها
لأوروبا ! – حتى خيلت للناس أنه – في جميع أحواله – القمة التي ليس بعدها قمة ..
بل القمة التي يقاس إليها الوحي الإلهي ذاته فيصدق أو يكذب – و هو غالبا يكذب ! –
لأنه المحك الصادق الذي لا يوجد أصدق منه في الوجود ! ! . و من الانحرافات التي
ذكرها الأستاذ محمد قضب - يرحمه الله - في
التراث اليوناني أو الجاهلية اليونانية أنها رسخت فكرة الصراع بين البشر و بين
الله ! أو الآلهة ! . و يعقب على ذلك بأن هذا نفس ما نراه في الجاهلية الحديثة
أيضا . و من آفات الجاهلية اليونانية كذلك أنها قدست العقل على حساب الروح مما
ترتب على ذلك أن حدثت " جملة من
انحرافات الجاهلية اليونانية .. فما لا يستطيع العقل إدراكه يصبح شيئا ساقطا من
الحساب . و كل الوجود يتناول من جانبه العقلي وحده .. بما في ذلك الوجود الإلهي
ذاته .. فالله – سبحانه – موجود بمقدار ما يستطيع العقل أن يدركه .. و لا وجود له
إلا في داخل ذلك الإطار ! أما الإدراك "الروحي" لله فضعيف الأثر جدا في
الإنتاج اليوناني كله [ و في الجاهلية الحديثة من بعد ! ] . "
من الملاحظ هنا أن الأستاذ محمد قضب - حفظه الله - يشير إلي مسألة الصراع بين البشر من جهة و بين الله من جهة أخرى ، مستخدما
لفظ الجلالة "الله" ثم يعقب عليه بقولة "أو الآلهة" طبعا كان
من الضروري أن الأستاذ قضب – حفظه الله –
أن يقتصر على استخدام مصطلح "الآلهة" فحسب و لا يورد هنا ذكر لفظ
الجلالة "الله" لأن الحضارة اليونانية عامة و الفلسفة اليونانية خاصة لم
يستخدموا لفظ الجلالة "الله" بالمطلق بل استخدموا مصطلح
"الآلهة" فحسب" ثيوس" و يترجم إلي المصطلح "الإله"
. ما يترتب عليه أن العقل لا يمكنه أن يدرك " الله سبحانه و تعالي " بل
يدرك "الإله" فحسب . و يوجد بون شاسع بين لفظ الجلالة "الله"
و لفظ "الإله" من حيث الصفات و الدلالات .
و يبدو جليا لنا مما سبق مدي تقديس اليونان
للعقل فلم يجعلوا للعقل سقفا بل أنهم تركوا له الحرية المطلقة في مناقشة أية مسائل
سواء كانت في مستوي إدراكه أو فوق مستوي إدراكه مما ترتب عليه انحرافات فكرية عند
فلاسفة اليونان لا حصر لها .
مما سبق نتبين أن الإخوان المسلين حاولوا
قراءة الثقافة الغربية و خاصة الفلسفة اليونانية و تبنوا موقفا محددا تجاه هذه
الثقافة و الفلسفة الغربيتين . و هذا يدخل في صميم علم الاستغراب ، و هي محاولة من
قبل منظري الإخوان المسلمين للمساهمة في تدعيم علم الاستغراب سواء فعلوا هذا عن
قصد منهم أو لا ، و سواء كنا نتفق معهم في إطار بناءهم الفكري أم لا .
أ.د/ حسن كامل
إبراهيم