قسم الثقافة
الإسلامية – كلية التربية – جامعة الملك سعود
يدرس
الفلسفة بمراحلها المختلفة ... في ضوء الإسلام
لا ندري لماذا
تتدافع المقالات هنا وهناك مطالبة – و بإلحاح شديد - بتدريس الفلسفة في مختلف
مراحل التعليم في بلاد الحرمين الشريفين ، بعبارة أخرى نتساءل عن أسباب تلك الدعوة
التي نلاحظها في كثير من الصحف العامة ؟ ! . و لعل السبب الرئيس الذي يدفع هذا
النفر من الباحثين و الدارسين و الكتاب إلي تلك الدعوة أن الفلسفة - فيما يزعمون -
تفيد الشباب في الجامعات في التحاور على
نحو أفضل ، و أنها تعينهم على فهم ما حولهم بطريقة صحيحة . و ذلك لأن الفلسفة منهج
علمي ، و أنها تنظم التفكير ، و أنها ليست علم من أجل العلم بل أنها تلقي بظلالها
على العلوم الأخرى ، تلك العلوم التي انبثقت من رحم الفلسفة . إن الفلسفة تساعدنا
جميعا في فهم العالم من حولنا علي كافة المستويات ، إنها متغلغلة في كل شيء . و مع
الأسف يوجد – على نحو ما يزعم هذا النفر- بعض من الباحثين و الدارسين الذين يعترضون
على تدريس مقررات الفلسفة بحجة أنها تتعارض مع ثوابت الشريعة .
هذه الدعوة التي
يطرحها بعض النابهين من كتابنا ، هؤلاء الكتاب الذين لهم قدر كبير في حياتنا
التعليمية و الثقافية ، و الذين يساهمون من خلال أطروحاتهم في تقدم الوطن تعليميا
وثقافيا . نسوا أن تلك الدعوة محفوفة بكثير من المخاطر ، لأن الفلسفة بمقرراتها
المختلفة من الضروري أن تدرس في ضوء الإسلام و لا تدرس من منطلق أنها مقرر مثل
غيرها من المقررات بسبب أنها تشتمل على كثير من المفاسد و الضلالات التي يكون لها
تأثير خطير على العقائد و العقول . على نحو ما أشرنا إلي ذلك بإيجاز شديد في
مقال سابق نشر في جريدة الجزيرة الموقرة بتاريخ 3 / 4/ 1429 هـ / الموافق الأربعاء
9 / 4 / 2008 م .
-
علي كل بالنسبة للقول أن الفلسفة ليست
علم من العلوم بل أنها تلقي بظلالها علي العلوم . يمكننا القول أن الفلسفة ليست
علما من العلوم بالفعل بل أنها أم العلوم ، فالفلسفة بمعناها التقليدي هي محبة
الحكمة ، و طبقا لهذا التعريف فإنا تتضمن في جعبتها كافة العلوم ، وعندما تسلم
المسلمون منارة المعرفة من أيدي اليونان انفصلت العلوم عن الفلسفة بفضل اكتشاف
المسلمون مناهج البحث العلمي من استقراء و تجريب .
-
أما القول بأن الفلسفة منهجا علميا فلا
أعتقد أن الفلسفة كذلك بالمطلق ، وهذا القول يعبر عن وجهة نظر شخصية ، و لم نسمع
عن ذلك في أي من مؤلفات الفلسفة المتداولة بين أيدينا سواء كنا طلاب علم أو أساتذة
في الجامعات و تخصصنا هو الفلسفة .
-
كذلك الزعم بأن الشباب القارئ و الدارس
للفلسفة سيكون في تحاوره أفضل من الشباب الذي لا يقوم بذلك ، أتعجب من هذا الربط
الغريب و العجيب بين الفلسفة و التحاور أو المحاورة ، لماذا هذا الربط ؟ ! . ولعل
أحد القراء يختلف معي بحجة أن أفلاطون الفيلسوف اليوناني المشهور كتب كل مؤلفاته
في صورة محاورات . علي الرغم من ذلك دعونا نسأل كم طالب في البلدان العربية
المجاورة درس الفلسفة في مقرراته الدراسية ، و كم طالب منهم تمكن من التحاور
بطريقة أفضل ؟ ! . و كم طالب منهم التحق بقسم الفلسفة عن اقتناع بنسبة مائة في
المائة ؟ ! . أؤكد لك أيها القارئ العزيز عن تجربة شخصية من قلب هذا التخصص أن 99
% إن لم نقل 100 % التحقوا بهذا القسم بسبب المجموع فحسب . كذلك لم نجد من خريجي
هذا القسم إلا نسبة ضئيلة جدا تجيد التفكير و هي تجيده قبل الالتحاق بهذا القسم و
تنموا و تتطور مهارة التفكير عندها مع مرور الوقت . بل الأكثر من ذلك فأكثر من 99
% إن لم يكن 100 % من العلمانيين و الشيوعيين في مجتمعاتنا العربية من خريجي هذا
القسم . بل أنني شاهدت بأم عيني من أقدم من دارسي هذا التخصص و خريجه على الانتحار
بسبب ما تنطوي عليه الفلسفة من مفاسد وضلالات . بعد كل تلك المعلومات وغيرها كثير
، هل من الممكن أن ننادي بإنشاء أقسام للفلسفة في بلاد الحرمين الشريفين ؟ ! .
-
وأتساءل : لماذا لا نربط التحاور و
المحاورة بالقرآن الكريم ؟ ! . ألم يرد في القرآن الكريم كثيرا من الآيات القرآنية
التي تحض المسلم على التحاور ؟ ! ، أليس الحوار منهجا قرآنيا ؟ ! ، لماذا دائما
نربط كثيرا من مفرداتنا الثقافية بالثقافة الغريبة و لا نربطها بثقافتنا الإسلامية
؟ ! . و من الآيات القرآنية الدالة على ذلك على سبيل المثال لا الحصر : " وإذ
قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك
الدماء " [ البقرة / 30 ] ، " و إذ قال الله يا عيسي ابن مريم ءأنت قلت
للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله " [ المائدة / 116 ] ، " قالت
رسلهم أفي الله شك فاطر السموات و الأرض " [ إبراهيم / 10 ]
-
و بالنسبة لكون الفلسفة تساعدنا جميعا
على فهم العالم من حولنا ، وأنها متغلغلة في كل شيء . أزعم أن الأمر مبالغ فيه جدا
، وأؤكد أن مسألة ربط التفكير بالفلسفة أمر لا نصيب له من الصحة . نعم التفلسف
يعني التعقل كما أشار الفيلسوف اليوناني المشهور أرسطاطاليس في مؤلفه دعوة للفلسفة
، ولكن لا يعني ذلك أن التفكير لا ينفك عن الفلسفة ، وأن الإنسان الذي لا يتفلسف
أو على أقل تقدير يدرس أو يقرأ الفلسفة لا يمكنه التفكير ، فهذا أمر مستحيل ، هذا
الأمر فيه مبالغة في دور الفلسفة في حياة الإنسان. و أتساءل مرة أخرى لماذا لا
نربط التفكير و التعقل بالقرآن الكريم و ليس بالمفردات الثقافية الغربية ؟ ! ،
لماذا دائما نربط التقدم والرقي الثقافي و التعليمي خاصة والتقدم و الرقي عامة بكل
ما هو غربي ؟ ! ، أهي ردة ثقافية أخري لبدايات القرن المنصرم . و من الآيات
القرآنية الدالة على دعوة القرآن الكريم إلي التعقل و التفكر علي سبيل المثال لا
الحصر : " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا
الألباب " [ فاطر / 28 ] ، " يؤتي الحكمة من يشاء و من يؤت الحكمة فقد
أتي خيرا كثيرا و ما يذكر إلا أولي الألباب " [ البقرة / 269 ] ، " ما
الحياة الدنيا إلا لعب و لهو و للدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " [
الأنعام / 32 ]
-
و فيما يتعلق بتدريس مقررات الفلسفة ،
فإنها تدرس بالفعل في بعض الجامعات السعودية ، ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك ،
ولكنها تدريس في ضوء الإسلام . و قسم الثقافة الإسلامية بكلية التربية – جامعة
الملك سعود هو القسم الرائد في هذا المجال . فمن يراجع لائحة القسم يجد أن الفلسفة
بمراحلها المختلفة تدرس في هذا القسم : الفلسفة اليونانية ، و الفلسفة المنتسبة
للمسلمين ،أعني ما طرحه الفلاسفة المنتسبين للإسلام من فلسفة ، والفلسفة الحديثة و
الفلسفة المعاصرة ، ويدرس إلي جانب ذلك المنطق الصوري الذي أسسه أرسطاطاليس واضع
المنطق، و المنطق كما نعلم جميعا مدخل أو آلة للفلسفة . و المنطق الأرسطاطاليسي
يضع لنا من خلاله أرسطاطاليس قواعد صورية لكي يكون تفكيرنا سليما على نحو صوري و
ليس على نحو واقعي ، و تناول هذا الأمر
بالتفصيل يحتاج للمزيد و المزيد من المقالات . و يبدو ذلك من خلال المقررات التي
يقررها القسم على طلابه ، و هي على سبيل المثال لا الحصر : 227 سلم ، 327 سلم ،
323 سلم ، و 423 سلم ، 224 سلم ،،،الخ . وتدرس كل هذه المقررات في ضوء الإسلام . و
بالنسبة لمحتويات هذه المقررات و كيف تدرس في ضوء الإسلام ، أو ما هو موقف الإسلام
منها فإن هذا الأمر يحتاج كذلك لمزيد من المقالات .
-
و أما تعجب بعض الكتاب و دهشتهم من فئة
من بني جلدتنا ترفض تدريس مقررات الفلسفة و استحداث أقسام لها في الجامعات
السعودية ، فهذه الجامعات هي الوحيدة في جامعات العالم التي لا يوجد فيها أقسام
للفلسفة بحجة أنها تطرح أسئلة تتعارض مع مقررات الشريعة . هل هو عيب فينا أننا نحب
الإسلام و المسلمين و نخاف عليهم كذلك ؟ ! ، ألم يثبت لنا بالفعل أن الفلسفة عندما
نشرت في ديار العرب و المسلمين قبل ذلك أحدثت كثيرا من المفاسد والضلالات ، و أن
أضرارها أكثر من منافعها إن كان فيها منافع . و لقد اتضح لنا مما سبق أنها تدرس في
بلاد الحرمين فعلا و لكن في ضوء الإسلام ، لماذا إذا تستحدث أقسام للفلسفة في بلاد
الحرمين ؟ ! ، هل المطلوب هو تدريسها بعيدا عن الإسلام ؟ ! ، ماذا يريد هؤلاء
الذين يروجون لها علي صفحات الجرائد . نعم ، تطرح الفلسفة أسئلة ميتافيزيقية فوق
قدرة وطاقة العقل البشري ، فالعقل
المتفلسف لا سقف له على الإطلاق ، فالمتفلسفة يتركون الحبل على الغارب لعقولهم
تصول و تجول كيفما تشاء . أما الإسلام فقد جعل للعقل البشري حدود ليحافظ عليه من
التخبط بين النظريات الفاسدة و المفسدة ، أليس في ذلك راحة و فائدة للإنسان أم أن
الإنسان يبحث – كعادته – عن ما هو ليس في قدراته ، ألم يكتمل الدين ؟ ! ، أليس في
هذا الدين الهداية ؟ ! ، أليس هذا الدين دين الفطرة ؟ ! ، ألم ينظر هؤلاء الدعاة
للفلسفة إلي تلك الأعداد الغفيرة في أمريكا و أوروبا التي تعلن اعتناقها للإسلام
كل يوم رغم حملات الإساءة المتتابعة علي خير الأنا م و الرحمة المهداة رسولنا صلي
الله عليه وسلم ، ألم يعش هؤلاء مع الفلسفة و مذاهبها سنين عديدة و لم تشبع عقولهم
و أنفسهم و عندما عرفوا الإسلام وجدوا فيه الراحة والطمأنينة العقلية و النفسية .
و إني لأتعجب كثيرا أمام ذلك فالآخر يجد راحته العقلية و القلبية في الإسلام و هو
ليس بين يديه و نحن نبحث عن التخبط العقلي و المتاهات الميتافيزيقية رغم أن
الإسلام بين أيدينا ؟ ! .
-
أما القول بأن ثوابت الشريعة تتعارض مع
مبادئ الفلسفة فإن ذلك الأمر يذكرنا بعناوين كتابين : الأول : " فصل المقال
فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال " من تأليف ابن رشد الذي حاول فيه التوفيق بين الفلسفة و الإسلام ،
و الثاني : " درء تعارض العقل مع النقل " من تأليف شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمة الله عليه الذي بين فيه أن العقل السليم لا يتعارض مع الإسلام . و
مناقشة هذا القضية تحتاج لموضع آخر لمناقشتها .
و من هذا المنبر
نناشد الذين يتناولون الفلسفة بالقيل و
القال أن يكونوا من المتخصصين في هذا المجال ، لأن أهل مكة أدري بشعابها ، و نقول
أن الانبهار بالفلسفة ليس وليد الساعة بل أن تاريخنا الإسلامي يبين لنا أن نفر من
الآباء و الأجداد انبهر بالفلسفة فأحدثوا في ديار الإسلام كثيرا من الضلالات و
المفاسد ، فليس من الإسلام أن نفعل ذلك ببلاد الحرمين الشريفين ، وبدلا من أن نضيع
أوقاتنا في هذا الحديث الضار بنا و بشبابنا علينا أن نوجه طاقاتنا لنشمر عن سواعد
الجد لنعمل سويا من أجل رفعة راية لا إله إلا الله محمد رسول الله . وأما إذا
استمر هذا النفر في الترويج للفلسفة بعد
كل ذلك ، نقول لهم أننا – كما ذكرنا في المقال السابق – لن نفرط في أمننا الفكري أبدا و سنبذل الغالي و
الثمين من أجل أن تظل بلاد الحرمين الشريفين تنعم بالأمن الفكري إلي أن يشاء الله
تعالي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق